وفي كل محطة بصمة

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

أرنو إلى زرقة بحر العرب من علٍ، و"بوابة الهند" تنتصب صامدة أمام ما مر بها من أنواء بحرية وتأريخية، فيأخذني المشهد إلى العام 1913م حين وضع السير جورج سيدهام كلارك حاكم مومباي حينها حجر الأساس  لهذا المعلم؛ تخليدا لذكرى قدوم الملك جورج الخامس ملك المملكة المتحدة، وزوجته الملكة ماريا تك لزيارة مدينة مومباي، هي مزجٌ جميلٌ حَرِص عليه المهندس المعماري الأسكتلندي جورج ويتت بين نمطي العمارة الإسلامية والهندوسية، ورغم أنه كتب على البوابة باللغة الإنجليزية: "هنا نزل جلالة الملك جورج الخامس والملكة ماريا تك"، إلا أنَّها ترمز لتخليد ذكرى تسعون ألف جندي استشهدوا دفاعا عن الهند خلال الحرب العالمية الأولى، واليوم تعتبر من أهم المعالم السياحية في جنوب مومباي.

وتلُوح لي صور من ستينيات القرن الماضي؛ حيث كان السلطان تيمور بن فيصل -رحمه الله- يجلس عند بوابة الهند ينتظر الجوار المنشآت حتى ترسو، وتشده رائحة عُمان مع كل مركب عُماني يأتي إلى مدينة مومباي ليفرع حمولته من سح (تمر) ولومي صحاري ولبان حوجري، وأنواع من الأسماك المجففة، وبعض المنسوجات العمانية، ليحمل ذات المركب الأقمشة والبهارات والعطور الهندية في طريق عودته، كان يسأل الركاب عند وصولهم عن عمان وحال أهلها، وعن أسمائهم ومن أي مدينة أتوا، هل من مسقط أم صور أم صحار، وكان يوصي العائدين إلى مسقط ببعض الحلوى العمانية من سوق مطرح عند عودتهم إلى مومباي في المرة المقبلة؛ وكأنِّي به جالسا بهيبة السلطان راحلا ببصره المشتاق إلى الضفة المقابلة من بحر العرب، وقلعتا الجلالي والميراني متشبثتان بجبال مسقط ومطرح، وكأني بهما تلوحان إليه عبر الأفق، وبالرغم من حالته الصحية التي جعلته يتنازل عن الحكم لابنه السلطان سعيد بن تيمور -رحمهما الله- ويأتي إلى جمهورية الهند، إلا أنه كان يُوضع له كرسي عصرية كل يوم أمام بوابة الهند، فيجلس مع مرافقه، يرقب المارة ويتحدَّث مع هذا وذاك من القادمين أو المغادرين، وقلبه يدعو لبلاده وأولاده بالتوفيق والسداد، ومن عجائب الأقدار أنَّ السلطان تيمور استلم دفة الحكم عام 1913م، وهو نفس العام الذي وضع فيه حجر أساس هذه البوابة، وكأنها أعدت منتظرة وفود الملوك والسلاطين إليها، كانت عمان حينها تعاني مثلما العالم كله من النزاعات الداخلية، وشبح الحرب العالمية الأولى يلوح في الآفاق، وأزمة اقتصادية تعصف بالدول كلها دون استثناء، فما كان منه إلا أن بدأ في العمل على الاستقرار السياسي داخل عُمان أولا؛ فوقع في العام 1920م اتفاقية السيب؛ فأخذت التجارة العُمانية بالازدهار، إلا أنها وفي ضوء النكسة الاقتصادية التي أطاحت بالكثير من الدول، تأثرت في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، فقام باستجلاب ثلاثة من الخبراء من مصر لتطوير نظام الجمارك في مسقط، كما أنه كان أول من شكل مجلسا للوزراء في تأريخ سلطنة عُمان، وجعل على رئاسته السيد نادر بن فيصل، وفي عام 1929م عين السيد سعيد بن تيمور -حينها- رئيسا لمجلس الوزراء.

وأعود إلى الواقع لأتذكر أين أنا، وأنني ألوح إلى ذلك المكان ربما إلى عودة إن كَتَب لي الله تعالى ذلك، وربما تلويحة الوداع، فمومباي مدينة مفعمة بالحياة، لا تعرف الهدوء، ويبدو أن ذلك انعكس على نمط حياتي الشخصية؛ حيث كنت دائمة الترحال في الفترة الأخيرة، كي أقوم بجميع الواجبات الملقاة على عاتقي على أتم وجه، إن كل محطة نصل إليها مهمة، وتشكل جزءا لا يمكن بتره من حياة كل منا؛ لذلك يجب أن نرسم لأنفسنا هدفا واحدا على الأقل، إن لم تكن أهدافا، ونبدأها بأولوياتها من العام إلى الخاص، أي أنَّ ديننا السمح يأتي في المقام الأول، ثم وطننا وولي أمرنا، لأننا نمثله أينما حللنا وارتحلنا بأخلاقنا وظاهرنا وباطننا، والأمثل فالأمثل، وفي النهاية فإن كلًّا منا يحمل على عاتقه البصمات التي سيتركها في كل محطة نوعا وكما، أسال الله تعالى لنا القبول لكل كلمة وعمل، وأن يكون الحجر والمدر والبشر شهودا لنا على حسن الأداء لكل ما قمنا به.

-------------------------------

توقيع:

"يا جمرة الشوق الخفي..

نسيت أنا وجرحك وفي..

يتذكر الحلم الصغير..

وجدار من طين وحصير..

صوتك يناديني

تذكر..

تذكر الحلم الصغير"

البدر...!