"آه من الشوق وعمايله"..

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

"نسيت النوم وأحلامه، نسيت لياليه وأيامه.. بعيد عنك حياتي عذاب، ما تبعدنيش بعيد عنك".

تترافق كلمات مأمون الشناوي مع ألحان بليغ حمدي، وصوت "الست" أم كلثوم يأتينا عبر ذبذبات الزمن من عام 1965، لنستمتع بأروع ما صدحت به في أغنية "بعيد عنك"، والتي كنت قد تحدثت عنها في مقال سابق، ولكنني لم أجد وصفا لذلك المنظر الذي رأيته حاضرا أمامي ونحن في الصالة الأخيرة أنا وزوجي الغالي، قبل صعودنا إلى الطائرة المتجهة إلى إحدى الدول الآسيوية، وقد خلت الصالة تماما من الركاب، ولكن اندهاشنا الشديد لرؤيتنا -أجلكم الله- "نعلي" أحد المسافرين على أرض الصالة أمام أحد الكراسي، فسألنا المضيفة الأرضية: ما قصة هذا النعل؟ فضحكت وهي ترد: يبدو بأن لهفة أحد المسافرين وشوقه للعودة لدياره، أنسته أنه قد هرول للطائرة حافي القدمين، ففي الثقافة التي تعرفنا عليها في البلاد الآسيوية - حتى في بلادنا إلى فترة قريبة- أن تخلع نعليك قبل دخولك لأي منزل، سواء كانت دارك أو منزلا غريبا، وأتذكر في صغري أن علو مقام الشخص يفرض على الأدنى مقاما أن يخلع نعليه قبل السلام عليه، ولكن صاحبنا هذا جعل كلمات مأمون الشناوي ترن في أذني:

"كنت باشتاق لك وأنا وإنته هنا، بيني وبينك خطوتين// شوف بقينا إزاي أنا فين// ياحبيبى وإنته فين// والعمل ايه العمل، ما تقول لي اعمل إيه.. والامل إنت الامل، تحرمني منك ليه".

فما كان منه سوى أن يمضي مهرولا إلى المحبوب الذي أخذ منه الشوق ما أخذ ليجعله غير آبه لشيء سوى العودة إلى دياره.

فلواعج الشوق كم عذبت محبا دنويا، فكيف الحال بعامل بسيط يبدو وأنه قد أنهى مدة خدمته -والتي أجزم بأنّها أول خدمة له خارج وطنه؟ جعله الشوق يتخلى عن نعله، ومشى مهرولا إلى داخل الطائرة ناسيا أنّه حافي القدمين و "آه من الشوق وعمايله"، ورغم بقاء الطائرة لمدة معقولة، لم نر أيا من الركاب يستأذن بأنه قد نسي شيئا في صالة انتظار الركاب، لأنّ سعادته تفوق استعادة شيء بسيط أمام فرحة العودة إلى الوطن، وإن كان حافيا.

ولهيب الشوق كم هذب متقربا ربانيا، وجعله يشتاق للركون إلى حبل حبيبه المتين، لينهل من نجوى خالصة بينه وبين ربه، فيسره بلوعة الشوق لقبول ما يقوم به من طاعات وعبادات وقربات، ولكن الدنيا تلهينا ما بين هنا وهناك، بسبب الانشغال بالبحث عن الرزق، وما أن نصاب بابتلاء في حال أو مال أول عيال، نعود راكضين إليه سبحانه بكل شوق الوجود، فتنهمر عبرات الرجاء رغبة في عفو ونجاة، وهذا لعمري أعذب أنواع الشوق وأجلها على الإطلاق.

أمّا الشوق إلى الوطن، فـ"آاااااه منه"، وحتى نصل لجمال هذا النوع من الشوق يجب أن نفهم ما معنى الوطن؟ كل منا يعطيه تعريفا مختلفا، بحسب ارتباطه به أو بأي من موجوداته أو أناسه، ولكن لن يحس بالشوق للوطن إلا من تغرب اختيارا أو قسرا لسبب ما، لطلب العلم أو تلبية لنداء الواجب أو العلاج أو الحروب، لتمتد القائمة بأسباب مختلفة كثيرة، ولكنها تجتمع على كلمة واحدة (الغربة)، وهنا يشتعل أوار الشوق، فتحاول الهرب من ذلك الشعور المؤلم وأنت في غربتك بمحاولات التسرية عن نفسك بالتجوال هنا وهناك، والانغماس في العمل أو العلم، أو اتباع نصائح الطبيب -إذا كنت مغتربا في رحلة علاج- حتى تسرع في إنهاء غربتك بأي شكل كان، وليس الجميع سواسية في ذلك الشعور الخفي الظاهر، فهنالك من يعشق الترحال والغربة لأسبابه الخاصة، ولكنه وربي لن يفلت من مخالب ذلك الشعور المفترس ولو لمرة واحدة على الأقل، فالشوق والاشتياق إذا استيقظا في نفس المغترب، أيقظا معهما كل أنواع الألم، وسردا تفاصيل الوطن التي كنت تمر بها يوميا ولكنّك لا تلقي لها بالا، لأنّك اعتدت عليها، وسيذكراك بنسائم ثرى بلادك بعد زخات المطر، والتي كنت تستنشقها بشكل تلقائي، إنّه شعور ينهش في صميم القلب، فترتفع غصته إلى الحلق، لتحبسها وأنت تدعو الله أن يردك إلى وطنك ردا جميلا وعزيزا، فتسري كلمات الست عبر أثير الكون لتذكرك بذلك الشعور الدفين لتراب يفوق التبر قدرا:

"غلبني الشوق وغلبّني// وليل البعد دوبني// ومهما السهد حيرني// ومهما الشوق سهرني// لاطول بعدك يغيرني// ولا الأيام بتبعدني// بعيد عنك".

كما يخامرك شعور غريب عندما تخف وتيرة الاتصالات التي كانت تأتيك بكثافة في بداية الاغتراب، ثم تقل شيئا فشيئا، لتحس بأنك قد أصبحت نسيا منسيا، وهنا تتذكر تلك الكلمات: "وبين الليل وآلامه، وبين الخوف وأوهامه..

باخاف عليك.. و باخاف تنساني// والشوق إليك.. على طول صحاني" ليرن ذلك المثل العماني في أذنك: (إذا بغيت تروز غلاك يا تموت يا تتغرب)، والذي يعني أنك إذا اردت اختبار مقدار فقدك في قلوب الآخرين فعليك بإحدى اثنتين إمّا الموت أو الاغتراب، وستأتيك الإجابة بمصداقية المثل عندما تبدأ  قائمة متفقديك في التقلص مع تقدمك في سنوات الاغتراب، والعكس أيضا ينطبق عليك، لأنّ الأشخاص يمكنك -في ظل وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا هذا- إما أن تتواصل معهم بمكالمة أو أن ترسل لهم رسالة بين الفينة والأخرى، ولكن الشوق إلى الوطن كيف ينطفىء لهيبه إلا بالعودة إلى أحضانه، ولكن حتى ذلك الحين تستطيع أن تكون أنت الوطن، وأن تمثل جماله بجمال أخلاقك وأسلوب تعاملك مع/ما حولك، أن تحدث الجميع عن روعة إنسانه وأرضه، عن نسيجه المتناسق بتناغم رائع.

يقال إنّ للسفر سبع فوائد، لذلك فإنّ إحدى فوائد الغربة أنّها تعلمنا الكثير عن ثقافات المجتمعات التي نتعايش معها، ولكننا نحاول أن نكتسب الجميل منها، ونتجنب ما هو سيء -إن واجهناه حولنا-، فنتعهد لمن نحبهم ولأوطاننا بأننا سنبقى أنقياء لخالقنا وأوفياء للوطن كما نحن دوما، وأنّ التعبير عن شوقنا هو خير دليل:

"ماليش غير الدموع أحباب.. معاها بعيش بعيد عنك.."، ومهما سردنا عن عشق الوطن والشوق إليه فلن نوفيه حقه في الوصف، وأنّ هذه المشاعر الصادقة تنهانا عن التفكير ولو لمجرد فكرة عابرة أن نمد أيدينا لننهش في لحمه، أو تشويه صورته بنقطة حبر واحدة.

 

--------------------------

 

توقيع:

إلى تراب أغلى من الروح:

"لا سفر يبعدني عنك، صورتك كل البلاد..

ولا زمن ياخذني منك، لا غياب ولا بعاد.."

كلمات: د. علي الغامدي

غناء: صوت الشجن والشجى عبادي الجوهر.