حميد بن مسلم السعيدي

البعض يبدو أنّه لم يقرأ الرسالة جيداً ولم يستمع للحقيقة التي تقال، وربما أراد أن يصم أذنيه عن سماع قول الحق كلام الله عزوجل الذي تكرر ثلاث مرات في افتتاح الفترة السادسة لمجلس عمان عام 2015، "وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا" (56- الأعراف).

هي رسالة كانت لكل مواطن وكل مسؤول وكل من تولى وظيفة وأمانة أنيط به القيام بواجبها في خدمة الوطن في كافة المستويات، بأنّ عليه أن يقوم بواجبه بأمانة وإخلاص، كان ينبغي أن يدركوها جيداً؛ فالأمر لم يُعد خفيًا على أحد، وما يحدث في عدد من المؤسسات الحكومية قد يذر بأضرار كبيرة، فالقضية لم تُعد اختلاس مال عام، وإنما سرقة وطن، فالخيانة كانت عظيمة، والثمن كان غالياً، فما أنجز من تنمية وعمران ونهضة عظيمة طوال التسعة والأربعين عامًا لم يأتِ من فراغ، وإنّما نتيجة لعمل وطني شارك فيه المخلصون لهذا الوطن. لذا ينبغي أن يصان ويحافظ عليه بحكم القانون والنظام، وبأمانة المواطن، وبالواجب الوطني الذي ينبغي أن يقوم به كل مسؤول، فهذه المؤسسات هي تحت إدارة وإشراف ومسؤولية من يعتلي الهرم فيها، ولا يمكن أن نوجد الأعذار لكل من يتخلى عن هذا الواجب، فالخلل الذي يحدث في المؤسسات هو نتيجة الابتعاد عن القيام بالواجبات المنوط القيام بها، مما أدى إلى ظهور الفساد، وأثمر آثارا أضرّت بمصلحة الوطن. والخوف أن يصبح الفساد أكثر انتشارا وجزءا من العمل في المؤسسات، ثم يتحول إلى سلوك طبيعي، إلا إذا كانت هناك يد من حديد تضرب بقوة دون تحفظ أو تمييز بين جميع الفاسدين، وتعمل على قطع يد من كل من تطاول على المال العام، كيف ولا والوطن يمر اليوم بأزمة اقتصادية يتجه نحو الاقتراض من مؤسسات عالمية مقابل فؤاد كبيرة تدفع من حساب وحقوق المواطن، وفي الاتجاه الآخر هناك من لا يقدر ذلك ويخطط ويخون الأمانة ويسرق هذه الأموال.

فالغضب الذي عبّر عنه الرأي العام كردة فعل على اختلاس المال العام في وزارة التربية والتعليم نتيجة طبيعية لحجم هذا الفعل المشين الذي أساء للعمل المؤسسي وضرب بعرض الحائط كل المبادئ والقيم والأخلاق، فهذا المبنى الشامخ الذي ننظر إليه على أنّه مبنى تصدر من خلالها فلسفة التعليم وتحقق على أركانه التربية على المواطنة وعلى سمو الأخلاق نجده يتداعى مما حدث بداخله من خلل ليس بسبب السرقات المالية، وإنّما حجم التأثير الفكري والقيمي على أجيال ومستقبل الوطن.

خطورة الأمر لا تُكمن في المال الذي تم سرقته فحسب، وإنما هناك خطورة كبيرة على مستقبل الوطن، فالمجتمع المدرسي والطلبة هم جزء من الواقع ما يحدث من تداول في هذه القضايا تصل إليهم بكافة تفاصيلها، ويتعايشون معها ويستمعون إليها جيداً، وهنا تكمن الخطورة في التأثير على القيم، وهذه لا تدرس بالقراءة وإنّما تكتسب بالسلوك والممارسة التي يتعايش معها الطالب في المدرسة والمجتمع والأسرة.

إنّ ما حدث يمثل قضية وطنية تحتاج إلى الدراسة والنقاش للوصول إلى معالجة ليس في المؤسسة التربوية وحسب، بل يشمل معالجة شاملة في منظومة العمل الإداري بالمؤسسات الحكومية، لأنّ تكرار مثل هذه القضايا ببين الحين والآخر يعطي مؤشرات على وجود خلل كبير في العمل الإداري وتنظيمه، فما يحدث اليوم نتيجة للغياب الفاعل للعمل المؤسساتي الذي يعتمد على المعايير والأنظمة والقوانين وعدم تفعليها بصورتها الحقيقية، والابتعاد عن الكفاءات الوطنية والتركيز على العلاقات الاجتماعية والعاطفة في اختيار الموظفين في الوظائف ذات المسؤولية، حيث خسر الوطن جانبين، خسر المواطنين الأوفياء المخلصين بتهميشهم، وخسر المحافظة على أمواله بتولي هذه المناصب من لا يستحقها.

وفي ذات الاتجاه نجد المواطن ما زال يؤمن أن الكشف عن قضية السرقة في ديوان عام المؤسسة التربوية يؤكد أن هناك رجالا عاهدوا الله والوطن وجلالة السلطان على القيام بالواجب الوطني في سبيل العمل على محاسبة كل من تسوّل له نفسه العبث بمقدرات ومكاسب هذا الوطن، واستغلال المنصب والمسؤولية والثقة التي منحت له في سرقة المال العام، وأنّ هذا الأمر لن يحدث طالما أنّ هناك من يؤمن بقيمة ومكانة هذا الوطن، ويضعه وساما على صدره في القيام بواجباته الوطنية والعمل على محاربة أولئك الخونة واللصوص الذين لم يردعهم الوازع الديني والوطني عن التجرؤ على سرقة المال العام.

فجلالة السلطان المعظم- أيّده الله- يدرك جيداً قيمة المواطن وأدواره الوطنية التي ينبغي أن يقوم بها، لذا عمل على توجيهه باستمرار باعتباره الحارس الأمين على الوطن "على كل مواطن أن يكون حارسا أمينا على مكتسبات الوطن ومنجزاته التي لم تتحقق كما نعلم جميعا إلا بدماء الشهداء، وجهد العاملين الأوفياء". إنّ هذا التوجيه السامي لم يأت من فراغ، وإنما هو نتيجة لقراءة المستقبل، فرؤية جلالته كانت واضحة للعيان، وهي أنّ الحارس الأول والأخير على هذا الوطن هو المواطن؛ فإذا حدث خلل في أدواره الوطنية وتحول من حارس إلى سارق فهنا تكمن الخطورة الكبيرة على مستقبل الوطن، حيث إنّ انتشار الفساد هو سبب في انهيار الأمة وضياع مستقبلها واستقرارها، إلا أنّ هناك المواطنين الأوفياء القادرين على ردع ولجم كل من تسوّل له نفسه العبث بهذه المقدرات الوطنية.