العمل السياسي العربي أسير أزمته الفكرية

 

عبيدلي العبيدلي

يثير اندلاع الصراع في السودان في نهاية العام المنصرم، وتفجره منذ مطلع هذا العام الجزائر، واستمراره وتصاعده في هذين البلدين العربيين، مجموعة من التساؤلات الاستراتيجية حول مستقبل البلاد العربية. فالملاحظة الثابتة المستقرة في أذهان المواطن العربي، هي أنّه خلال العقد المنصرم، في أقرب تقدير ما إن تستقر الأوضاع نسبيا في بلد عربي، وتتراجع حدة الصراعات المتأججة فيه، حتى تفاجئنا الأحداث باندلاعها في عاصمة عربية أخرى، بوتيرة أشد، وعلى نطاق أوسع، حتى أصيب البعض منّا بما يشبه الاستسلام بأنّ هذا هو قدر هذه الأمة العربية وحالها، وهو، في الوقت ذاته، وبالقدر ذاته مصير تاريخها المعاصر، وأفق مستقبلها المقبل.

ولكي لا نغوص كثيرا في التاريخ، نكتفي بأن ننطلق من نهاية الحرب العالمية الثانية، التي شهدت خلالها المنطقة العربية سلسلة من التحولات البنيوية، على الصعد كافة: السياسية، والاقتصادية، بل وحتى الاجتماعية. فخلال الثمانين سنة الماضية نالت البلدان العربية استقلالاتها، ووضعت جانبا معاهدات الحماية التي كانت بنودها أقرب إلى شروط العبودية، وشهدنا بروز بعض التكتلات الإقليمية، التي كتب لبعضها الاستمرار مثل جامعة الدول العربية، ومجلس التعاون الخليجي، اللذين مهما قيل فيهما يبقيان رمزًا يؤكد استمرارهما ثبوت عروبة شعوب هذه المنطقة، وتوفر مقومات "التآخي" العربي بينها. كما شهدت بعض البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص الخليجية منها، اكتشاف النفط بكميات تجارية في بطون أراضيها، حولها، إلى سلعة استراتيجية عالمية، وتبلورت بفضل ذلك، وعوامل اقتصادية أخرى، فئة اجتماعية عربية عبرت، وما تزال تعبر عن هموم الطبقة المتوسطة وتطلعاتها نحو المزيد من التحولات التي تلبي احتياجاتها. الثغرة الوحيدة التي تشوه معالم ذلك الجدار التطوري هي تأسيس الكيان الصهيوني، والمكاسب المتلاحقة التي حققها على حساب حقوق الشعب الفلسطيني أولا، والعرب في مراحل متلاحقة ثانيا، وهي ثغرة ما نزال نحن العرب غير قادرين على سدها كي يعود الحق لأصحابه.

لن نغرق في دياجير تفاصيل التاريخ، نكتفي بالعودة منتصف السبعينيات من القرن الماضي. حينها "دشنت" لبنان، وتحديدا في فبراير 1975 "انطلاقة" الاضطرابات التي عصفت بالمجتمع اللبناني، ودمرت استقراره، وصادرت مقومات نموه التي كانت تعده بمستقبل شبيه بمستقبل دول غير عربية، حققت ذلك في ظروف تطورية غير مماثلة. تلى ذلك اندلاع حرب الصحراء المغاربية التي زجت طبيعتها بثلاث دول عربية هي: المغرب، والجزائر وليبيا، كل بمبرراته، التي لن نخوض فيها، ونكتفي بالتدليل على أنّها كانت من مظاهر عدم الاستقرار الذي نتحدث عنه. ثم كانت حروب السودان التي لم تستقر حتى بعد شطره إلى نصفين غير متساويين.

ولا يمكننا تجاوز الغزو الصدامي للكويت، وما جرته على المنطقة من ويلات، ليس أقلها تأثيرا فتح البوابات العربية، وليس الكويتية فحسب أمام القوات الأمريكية التي ما تزال تتحكم برسم وإعادة رسم خرائط المنطقة العربية، بما لا يتفق ومصالح هذه الأخيرة. وليس إعلان ضم الجولان إلى الأراضي التي اغتصبها للنفوذ الصهيوني سوى أبرز مظاهر ذلك التحكم.

ويستمر المسلسل وتتوالى أحداثه؛ حتى نصل إلى ما يجري في السودان من تحركات، والجزائر من تململات تنذر بانفجارات، دون القفز على الأزمة اليمنية.

كل ذلك يدعو للتساؤل الملح، الذي ينز بالألم، المشار له أعلاه: هل كتب على هذه الأمة أن تستمر في طريق الآلام، ودفع الأثمان الباهظة، والفشل في تحقيق ما حققته أمم أخرى كانت أقل منها تطورا، وأدنى منها دخلا، ولم تكن تسبقها في مجالات أخرى مثل التعليم، والتنمية...إلخ؟

يفرض السؤال نفسه وبإلحاح كلما ألمت بالأمة العربية نكسة، أو تعرضت لواحد من الانفجارات التي أشرنا لها أعلاه، والتي لم تأت نهاياتها كما كان يتصور لها البعض عندما انطلقت بداياتها.

كثيرة هي العوامل التي تقف وراء هذه الحالة العربية غير المستقرة، المنذرة باستمرار الدمار. لكننا سنكتفي بذلك الذاتي منها، والأكثر أهمية وهو الأزمة الطاحنة التي يعاني منها الفكر العربي العاصر، والتي تناولها العديد من المفكرين العرب المعاصرين، الذين أكدت كتاباتهم على أن فصائل العمل السياسي العربي كافة، بوصف كونها مسؤولة مسؤولية تاريخية مباشرة عن الواقع السياسي العربي المزري الذي نتحدث عن مظاهره المأساوية؛ تعاني من أزمة فكرية بنيوية حادة، تنعكس سلبا على مشروعاتها السياسية التي تتوهم أن نجاحها يمكن أن يضع حدا للمآسي العربية.

فعلى مستوى الإسلام السياسي لا يجامل المفكر السياسي الإسلامي محمد عمارة أحدا حين يعترف في كتابه "أزمة الفكر الإسلامي المعاصر"، الصادر في العام 1990، عن دار الشرق الأوسط للنشر،" اليوم لا نغالي إذا قلنا إنّ إجماعًا يكاد ينعقد على أنّ الفكر الإسلامي يعيش في أزمة، وأنّ هذه الأزمة الفكرية، قد أوقعت هذا الفكر في مأزق حضاري، فأهل الفكر بتياراتهم المختلفة يسلمون بذلك، مع اختلافهم في تحديد أسباب هذه الأزمة وفي تعيين سبل الخروج منها".

ويشترك إثنان من المفكرين العرب أحدهما إسلامي هو د. رضوان السيد، والآخر يمكن تصنيفه في فئة الفكر العربي المعاصر الحديث وهو أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني في المغرب، د. عبد الإله بلقزيز في كتابهما القيم المشترك "أزمة الفكر السياسي العربي"، الصادر في العام 2001، عن دار الفكر المعاصر، بدمشق.

أمّا خارج إطار فكر الإسلام السياسي، فالاجتهادات كثيرة ومتنوعة، هناك ما جمعه الكاتب إبراهيم سعفان في كتابه: "أزمة الفكر العربي - شهادات الأدباء والكتاب من العالمي العربي". ثم هناك كتاب "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر العربية" لكاتبه عضو الحزب الشيوعي اللبناني مهدي عامل، الصادر عن دار الفارابي في العام 1972، ثم أعيدت طباعته للمرة السابعة في العام 2013.

ثمّ هناك اجتهادات كتاب من أمثال أدونيس، ومحمد جابر العابدي، ترد ضمن قائمة طويلة، جميعها تعترف بأن ما يقف وراء مثل هذه الانفجارات التي لا تكف عن التمظهر والتي تنتهي في حالات كثيرة إلى نتائج تقترب من العبثية، إنما تعود في صلبها وجوهرها إلى أزمة ذاتية، مصدرها الأزمة الفكرية التي يعاني منها العقل العربي.