1968.. رحلة عماني إلى أرامكو السعودية

أماني المسكرية

 

وحيث إنّ العنوان يطرح قصة نفسه؛ أبدؤها عندما أشّرتُ نهارا لسيارة أجرة "تاكسي" ذاهبة إلى طريق مسقط الشرقية، قاصدة زيارة صديقة يمنية بإحدى القرى الواقعة هناك. وكنت قد تركت سيارتي هناك لحاجتها إليها، تبادلنا السلام وسألته عن تكلفة التوصيل، فأبلغني بـ2 ريال عماني، شاح نظري إلى كمية الأغراض المشحونة بأكياس سوداء في المقاعد الخلفية. فقلت في نفسي لعلّه تاجر بمحل كماليات أو بيع الأعشاب. كانت البساطة تبدو على محيا وجهه، عمره تقريبا يجاور 60 سنة وأكثر. هو أبيض البشرة ولكنه لكبر السن والتعب الواضح على تفاصيله اكتسب وجهه لفحة السمرة البدوية.

بدأت أقلب في حقيبتي الكبيرة الحجم أبحث عن هاتفي. فضحك قائلاً: حقيبتك كبيرة وثقيلة. هل أنت مدرسة؟ أحببت طريقته المبسطة لبدء الحوار فقلت له. لا أنا أتعلم الرسم؟ همم برأسه وسكت. فقلت له. الوالد هل أنت تاجر.. أراك تحمل الكثير من الأغراض؟ قال: لا. هذه أغراض جماعة للتوصيل. أنا سائق تاكسي، وكنت سابقا موظفا في الجيش السلطاني العماني وقبلا في الجيش الإماراتي، وقبلها صبي في شركة الزيت الأمريكية في السعودية، هل تعرفين أرامكو؟.. أنا كنت أعمل صبيا لدى الشركة وأعمل لدى إحدى العائلات الأمريكية بمكان يسمونه (الكام). كانت لهجة السعادة تبدو عليه والحنين إلى الماضي يغمره. واستطرد قائلا: لقد كانت أياما جميلة ومتعبة وشاقة، كان عمري 17 سنة منذ أن  بدأت العمل هناك.

سألته: لماذا ذهبت للعمل هناك في السعودية وتركت بلدك؟ فوصف لي صعوبة الحياة قبل النهضة العمانية المباركة.. كانت الحياة صعبة فيها والرزق قليل. لقد كان الحصول على الماء يحتاج أن تمشي مسافات بعيدة على الحمار. والعمانيون يسافرون للدول المجاورة للبحث عن عمل لكسب الرزق. وعلمتُ منه أنه ذهب بتوصية من أحد معارفه كان قد سبقه إلى هناك. ثم سألته: كيف كان يتنقل ليصل إلى السعودية في تلك الحقبة؟

رجع إلى الخلف وتنفس الصعداء وكأني سألته عن رحلة تعب ومشقة ما زالت عالقة في ذاكرته إلى اللحظة. أخرجت مذكرتي وقلمي وقررت تدوين خط رحلته إلى أرامكو السعودية، وكانت كالتالي:

قال بنفس عميق: كنت أخذ لينج (قارب صغير) من سواحل صور إلى أن نصل إلى مطرح، وأتوقف هناك لأرتاح في مكان يدعى مطيرح مع امرأة تدعى مريم تقوم بتأجير منزلها للمسافرين وتأخذ 5 روبيات مقابل 3 إلى 4 أيام للمبيت. وكنت أجلس حتى استكمل إجراءات سفري. ثمّ تأتي باخرة كبيرة من الهند نشتري منها تذكرة بـ30 روبية وتأخذنا إلى البحرين. لم يكن هناك مقاعد ولا غرف مخصصة للمبيت، ننام على سطحها في أي مكان، وترى العائلات ومختلف الجنسيات بنفس الحال، ومن البحرين إلى موانئ دبي إلى قطر وانتهاء بالكويت. ثمّ يأخذنا لينج آخر إلى حدود السعودية، ونقف في منطقة هناك فيأتي مندوبون عمانيون لندخل في تحقيق عن ماهيّة مقصدنا وعن سبب الزيارة.

ويضيف: وصلت إلى مقر عملي (الكام) بعد رحلة عناء تكلفت مني 5 أيام إلى 7. كنت أستمتع بعملي هناك مع الأمريكان، كانوا محترمين وقليلي الكلام، وآخر الشهر بنفس اليوم يضع لك في ورقة داخلها راتبك على الطاولة. وأتذكر موقفا في رأس السنة أنهم كانوا يحتفلون بصخب في طريقة لا نعرفها في بلاد العرب. وضحك بصوت عالٍ وكأن الحدث والموقف قد حدث الآن، ثمّ سألته: وبعد كم سنة ترجع لزيارة أهلك في عمان؟ أجاب: حسب الظروف والإجازات، والأكثر أخذ سنة إلى سنتين. سألته عن أجمل شيء يتذكره في خط رحلته وعمله بالسعودية، فقال لي: عندما علمتُ في عام 1970 أن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- قد تولى الحكم، وأن "الآن.. أموركم طيبة". وأتذكر أنه كان معي زميلي صالح، وقد تشاركنا الفرحة، وكأننا بُشِّرنا بمولود جديد، فبالفعل وُلدت عمان من جديد. قال جملة أعجبتني: "كنا يا ابنتي نتحمل المصاعب وشقاء الرزق وعناء البحث، نذهب للمخاطر متوكلين على الله، والله كان معنا إلى أن نهضنا بأكتاف من صبر وتوكل".

عزيزي القارئ، لقد كانت ملامح الرجل ويده وخلقه وقصته شاهدة على كل أنواع التحدي الإنساني الذي يسمو بالإنسان إلى الارتقاء بإنسانيته لفهم أسباب خلق الله لهذه الأرض الفانية. إننا اليوم فقدنا معنى التعب والبناء الحقيقي لذواتنا في كل رحلة شقاء، فقد تقلّص الصبر إلى مرحلة الانطواء.

وبعد أن وصلت لوجهتي انحنيت مقبلة يديه المخضبتين بتعب العمر الفائت، شكراً منّي لنصيحة أعطاني إياها بين حنايا رحلته؛ مفادها "من رحم الجهد المبني على أهداف وخلق وحاجة.. تكمن إنسانيتنا".

 

 

خاتمة المندوس "دائما ما يلتصق القليل من العطر باليد التي تعطيك الورود". من أقوال روبن شارما.

تعليق عبر الفيس بوك