النزاهة وبراءة الذمة يحتاجان إلى تربية

حمد بن سالم العلوي

كانت لديَّ النية هذا الأسبوع، لأكتب في الديمقراطية الأمريكية، التي أرى فيها صِنفين؛ أحدهما للاستخدام المحلي فليس عليه غبار، والصنف الآخر للتصدير ولكنه "معطوب" ولا يصلح للاستخدام الآدمي، ولكن طرأت قضية محلية مهمة وخطيرة، فوجدت أنني معنيٌّ بالأمر كمواطن عُماني، يعيش هموم وطن عزيز عليه، فأن يضرُّ به شرذمة باعت الدين والأخلاق والقيم الحميدة بالمال، فهذه فاجعة وطنية تمس الأمانة والأخلاق والدين، فتذكرت القيم التي كان عليها المواطن العُماني في الماضي، ولكنْ هناك بعض من جيل اليوم، قد أبهرته الحداثة فأنسته الدنيا والآخرة، ولم توقره التوجيهات السامية التي تحثه على المحافظة على الأصالة بحيث لا تطغى عليها الحداثة، وهناك مقولة مشهورة لجلالة السلطان قابوس المعظم -حفظه الله ورعاه- وهي: "إن الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذا أو سُلطة"، إنَّ التوجيهات السامية تأتي في صورة حِكم قصيرة، لكنها مفهومة وواضحة الدلالة لمن أراد الفهم.

لقد تكفلت المجالس العُمانية "السبلة" بتربية الناس في الماضي، وقد رسَّخت في النفوس قيم الأدب والأخلاق، أما مسائل الدين الإسلامي الحنيف، فكان يتولى غرسها الأبوان في النشء، ثم يتعهدها المجتمع بالرعاية والرقابة، وكانت دروس السبلة تعطى عملياً وبالتكرار اليومي، بمعنى أوضح كان النشء يأخذ الدرس عمليا، ويطبقه ويختبر فيه في نفس الوقت، لذلك ما كانت نفسه تجد الفرصة لتوسوس له بأفعال مخالفة للقيم التي تعلمها، وترسخت كجزء من أطباعه التي نُسجت في نفسه من خلال القيم الحميدة التي ألزمته بها السبلة العُمانية العريقة، وليس في السبلة شرح وتنظير يتبخر بمجرد مغادرة النشء للمكان، لذلك أصبح من يخالف قيم السبلة يتوارى عن الأنظار، فلم يعد له وجه يقابل به الناس، إذن الضوابط الذاتية هي من يُحمي الإنسان من الشطط والزلل، وهذه القيم والسلوكيات الحميدة كانت سابقة في الطبائع العُمانية للدين الإسلامي الحنيف الذي أتى متمماً لمكارم الأخلاق للإنسان العُماني.

إذن؛ العقيدة قبل الدين لأن هناك أمما كثيرة حول العالم، سارت على نهج قويم، وهو النهج الذي أقره الدين الإسلامي واشترطه على من يعتنقه، وهو الصدق والأمانة والعدالة والإخلاص في العمل، فالياباني يتقيد بالكثير من قيم الإسلام وهو يرفض الإسلام، لأن أهل الإسلام عجزوا عن إفهامهم له بالطريقة الصحيحة، ولأن هناك من تلبس بالإسلام كموروث من أهله، ولكن ليس كعقيدة، ولأن من يزعمون الإسلام اليوم، وبعضهم يُمنِّي النفس بالحور العين الحسان، لكنه يسرق ويزني ويخون الأمانة، ويظلم الناس حقوقهم ويأكل مال اليتيم، ولا يعمل بإخلاص ولا حتى يلتزم بمواعيد العمل، وهذا المدعي أنه مسلم، لا يحترم إشارات المرور، ولا يحترم حقوق الناس في الطريق، فتجده يسرق كل شيء حتى مواقف السيارات، وهو لا يرفع الأذى عن الطريق بل يرمي بالزبالة ليس في مكانها الصحيح، لكنه مستعد أن يسمعك أحاديث عن الحلال والحرام، ويسبق كل كلمة يقولها بالاستغفار، والتخويف من النار، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، قرعه الله هو وأمثاله.

إن المسلم المزعوم هذا، يسرق ويختلس ويرتشي، ويتجسس على الناس من أجل الإضرار بهم، ويغدق الهدايا على المسؤول، لكنه لا يعطف على مسكين يعرف حاجته للمساعدة، حتى إنه يشح بكلمة السلام عليكم، إن هو علم أن لا مصلحة ترجى من الشخص الذي يقابله في الطريق، والدليل واضح فالمسؤول قبل التقاعد يرى الناس فيه أنه "ملاك رحيم" وبعد التقاعد يرونه "شيطان رجيم"، وكل ذلك يتغير بانتفاء المصلحة، أي قوم متلونين نحن دعاة الإسلام الذي نسبنا إليه بالولادة، أما إذا سافرت بلاد الكفار كما يحلو للبعض تسميتهم، فتجدهم هم المسلمون بتصرفاتهم وأمانتهم، فيتبسمون في وجه الآخر، أما اللصوص والحرامية وقطاع الطرق -خاصة في أوروبا- فهم من أولئك الذين يدعون أن أجدادهم مسلمون.

لقد أضعنا الدين بسوء السلوك، لا بكثرة التردد على المساجد، ولا بكثرة التجعبير والسجود وعدد ركعات الصلاة، فلا يمر وقت إلا ويكتشف كافر بالقيم ومبادئ الإسلام، وهو بين مختلس وسارق ومرتش وراشٍ أو رائش بينهما، فلا تصدق أنك تستطيع أن تفتح مصلحة بدون مشقة، إن لم تخصص مبلغا خاصا للرشاوي، وفي الغالب إن الراشي والرائش والمرتشي مسلمون بالولادة، وفي بلاد المسلمين تحديدا، وهذه الأفعال للأسف الشديد تجري في جميع بلدان العرب والمسلمين، الذين يحرم دينهم الرشوة والفساد بكافة أنواعه، ولا علاقة لنا في البلاد التي دينها لا يحرم ذلك.

لقد صرنا نكتبُ لنشكو المسؤولين إلى الله عز وجل؛ لأننا نعلم حقيقة التوجيهات السامية، ونعلم حب جلالته لهذا الوطن ومواطنيه، ونعلم أن التقصير والتخاذل من المسؤولين الحاليين على رأس الوظيفة، حتى إن بعضنا أخذ الترحم على مسؤولي أيام زمان، فليس كل صغيرة وكبيرة نعلقها في مسؤولية القائد  -حفظه الله- ونحن نعرف ماذا قدم لعُمان، وماذا يريد من خير لهذا الشعب، ولكن الفلتَان والترهُّل الذي يُبديه بعض المسؤولين غير صحيح، وأصبح التقتير في بعض الأمور الضرورية، والهدر والتبذير في أمور ثانوية وغير مهمة، يكفيك أن ترى السيارات بأرقام حكومية بعد الدوام الرسمي، وهي تنافس سيارات الأجرة في الشوارع من كثرتها، فمتى سنرى مال الدولة مسؤولية جماعية في الحفاظ عليها، لأننا نراها الآن حالة مشاعة جماعية لتبذيرها واستهلاكها.

... إن توالد اللصوص والحرامية، مرده إلى ضعف العقوبة التي تردع ذات المجرم، وتؤثر في نفس الغير، وكذلك سرعة الكشف والضبط، وليس التوجيه وإصدار القوانين، لأن التوجيهات السامية واضحة والقوانين جيدة، ولكنْ متلقو التوجيهات هم المشكلة، وربما لا يرون في الاختلاس والسرقة جريمة، إذن القناعة أصبحت هي المشكلة، فإذا التبس الأمر على البعض، فلا ينبغي أن يلتبس على القضاء الذي ننتظر منه الأحكام الرادعة والمتنوعة، كما يفعل بعض أصحاب الفضيلة القضاة الذين يحكمون بخدمة المجتمع، كعقوبة إضافية في بعض الجرائم المشينة، ولا أظن أن جرائم الرشى والسرقة والاختلاس ليست مشينة في حق الفرد والمجتمع.