ليس كل جميل يرحل

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

أرسل لي والدي الغالي -كعادته- أسأل الله أن يرزقني حُسن بره وصحبته، احتفالية تأبين راقية لسيدة الغناء العربي بلا منازع السيدة أم كلثوم، فله صحبة أغبطه عليها تجتمع على جمال الروح قبل روعة الكلمة والمعنى واللحن، فيدور نقاشهم حول مقال قديم أو حديث، أو أصل تلك القصيدة وحكايتها، أو سبب هذه الأغنية، وما دار من حيثيات حولها حتى خرجت إلى النور، فيجعلني شغوفة في انتظار كل ما هو راق ورائق من هذه الدرر الرقراقة، ليُفاجئني قبل عدة أيام عن التأبين الرابع والأربعين لوفاة السيدة أم كلثوم رحمها الله وغفر لها؛ روى البخاري (4388) ومسلم (52) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ( أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ) وفي رواية لمسلم (52) ِ: (جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْفِقْهُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ)، وخلال سنوات حياتي التي رزقني الله أن أعيشها حتى الآن وجدت روعة هذا الوصف من خلال تعاملي مع أهل اليمن من خلال وظيفتي، ولقائي بالعديد منهم في الاجتماعات التي تنعقد بين الفينة والأخرى، ولكن صُحبة والدي رزقني الله حسن بره وصحبته، جعلوني أشد تعلقاً بذلك الوصف النبوي الذي لا ينطق عن الهوى، فهم لا يجملون الكلمات لمجرد التجميل، بل يخرجون أجمل ما في الكلمة من معانٍ، وهذا وربي لا ينبع إلا من قلوب غمرها رونق الصفاء، وعمرها صدق الإيمان.

لم أصدق أنّ أربعة وأربعين عاماً قد مرَّت على رحيلها عن دنيانا، ليس لأنني لا أؤمن بالقضاء والقدر، أو أنَّ الزمان أصبح ينساب من بين أصابعنا كما تنساب غرفات الماء من بينها، ولكن استغرابي ودهشتي أن كلماتها الراقية لا زالت تنساب بألحانها الأرقى بين الأجيال بمختلف الأعمار، ولأنني ربيت أبنائي على عدم فرض ذائقتي عليهما، بل تركت لهما مطلق الحرية في اختيار ما يروق لعمريهما، ولكنني تفاجأت من ابني تركي الذي يكاد أن يفصل بينه وبين أم كلثوم قرنًا من الزمان، يقوم بإرسال بعض المقاطع من حين لآخر لمعزوفة في إحدى البلدان من أوروبا الشرقية، أو طقطوقة بعزف أوركسترالي في أحد البلاد الغربية لبعض من أغنيات أم كلثوم، وأجده يستطرب لمعزوفات الفنان عبادي الجوهر أو الرائع أحمد فتحي عندما يسبحون في بحور أغانيها عزفاً على آلة العود، بل أحياناً يمعن في البحث عن أنامل شابة تتقن عزف جمالياتها بحرفية منقطعة النظير، ليرسلها إهداء لي بين الحين والآخر، فأتساءل كيف لجيل ولد ونشأ بعد وفاتها بعشرات السنين أن يستشعر لذة اللحن ويستطرب له، إلا أنَّ ما وجده من رقي الحرف والوتر أخذه إلى علو وسمو ذلك العالم.

رحيل أم كلثوم وبقاؤها بيننا حتى يومنا هذا يبعث في النفس التساؤل، كيف لسيدة بلغت من العمر ما بلغته وقد توفاها الله منذ عقود، أن تظل حاضرة وبقوة راسخة، ولا يُمكن أن تجد كلماتها في حضرة الإسفاف، بل تجد كلماتها وصوتها ينساب مترافقاً مع الجمال والهدوء والرقي، لقد أصبحت هذه الشخصية عملاقاً في تراثنا العربي الأصيل، يحاول ويا للأسف الكثير سرقته وتنسيبه إليه، بمجرد تركيب الكلمات على اللحن، بل أحياناً ترجمة الكلمات ذاتها دون ذكر الحقوق، ورغم كل ما وصلت إليه من مكانة في قلوب الناس، ومقام اجتماعي ووطني إلا أنَّ التواضع الجم والأخلاق الراقية كانت ديدنها الذي تتعامل به مع الجميع، وتجعل المرء منِّا يتساءل ما الذي أعددته أنا كي أتركه خلفي، يذكرني بالخير به ولو القلة القليلة من البشر؟

 

ختاماً.. لدينا في بلادنا مزون العصور الغابرة، وماجان الماضي، وعمان الحاضر والمستقبل، موروث ثقافي زاخر لا تُخطئه بصيرة أعمى، ولا تعمى عنه أعين مبصر، موسوعات عمانية تحطم الأرقام القياسية العالمية بعدد مجلداتها، بل قصائد تفوق المعلقات طولاً، أهازيج وفنون راقية، ولدينا في باطن الأرض ما يفوق سطحها -بكثير- من كنوز أثرية، تمتد إليها أيادي النهش والتخريب هنا وهناك، لأنها لم تجد من يكتشفها أو يبحث عنها، وحتى إن وجدت، لم نجد من يقربها إلى قلوب الناشئة وعقولهم بحب وألفة، إن الموروث يلقننا دروس الجمال والمروءة والشجاعة التي تركها أجدادنا الذين صنعوا الأمجاد في كل جانب من جوانب الثقافة وغيرها، فتلك الرسومات أو النقوش الرائعة في إحدى جبال محافظة مسندم الشماء، وتينك الأبنية الحجرية على جروف صخرية، وهذه الأفلاج بهندستها العجيبة، أو ليست دلائل على وجود إنسان عظيم، فكر وعمل وسخر وطوع ما حوله لأنه تذكر أولئك الذين سيأتون بعده يبحثون عن أجدادهم.

 

 

 

توقيع:

سيدي الأستاذ عبدالله العاقل: كن دوماً كما أنت، تهدي العقول أزكى عقود ياسمين الحرف، وأرقى غابات ورود الكلم، فغرسك الجميل سيزهر أجمل، وليس كل جميل يرحل.