المد الإسلامي في الغرب والقوة الناعمة


محمد عبد العظيم العجمي | مصر

قد يكون في بعض مراحل التراجع الحضاري والثقافي للمسلمين بعض الإلماحات التي تبرئ ساحة الإسلام المفترى عليه من قبل الغرب، وما نسب إليه من انتشار بالسيف قديما والإسلاموفوبيا والإرهاب والتطرف... إلى سائر التهم المفتراة حديثا، والتي ألصقت بمنهجه إلصاقا، ونسبت إليه وهو أبرأ منها براءة أبلج من الشمس في وضح النهار: وليس يصح في الأذهان شيء،، إذا احتاج النهار إلى دليل ..
هذا المد الديموجرافي للإسلام في العالم ــ رغم حالة الانحسار الجغرافي والحضاري ــــ يستحق شيئا من التوقف والتثبت من مدلولاته، فإلى المستقرأين للأحداث أصحاب العقول المتأنية الواعية ، أن مما لا شك فيه أن حالة الضعف الحضاري والثقافي لابد أن تخلف نوعا من الانحسار الإيدلوجي والثقافي المصاحبة للنظرية  أو الفكر أوالدين ،، أما أن يثبت بما لا يدع مجالا للإنكار أو الشك هذا التنامي البين في الإنتشار الإسلامي في القارة الأوربية والأمريكية وشتى أنحاء العالم، فحتما يجب أن يحمل هذا رسالة مفادها أن وراء هذا التوسع البشري لهذا الدين قوة أخرى مهيمنة تقف وراءه ، تبث فيه هذه الروح الخفية ، وتلهم فهمه لهذه العقول الشغفة بالانتماء إليه والدخول فيه، وتثبت بما لا يدع مجالا للخوض الجدلي حقيقة أن " اللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) "يوسف، وأن " اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) " .
لقد حدث أن سقطت الخلافة الإسلامية على يد التتار في القرن السادس الهجري ، وحدثت مقاتل ومجازر لا تخفى على دارسى التاريخ المحققين، وحكم العالم الإسلام من قبل التتار فترة من الزمن.. لكن الغريب أن هؤلاء التتار لم يستطيعوا تجاوز هذه المرحلة من الاحتلال العسكري إلى الثقافي أو الفكري ، بل حدث هذا التحول العجيب من التتار عن عقائدهم إلى دين الإسلام، بل حدث أكثر من ذلك أن برز منهم أعلام ينشرون الإسلام وعلومه في الأرض، حتى قامت جمهوريات لهم تدين معظمها بالإسلام " تتارستان، وبشكريا، أودمورت ـ تابعة لروسيا البيضاء ، يصدح الآذان بين ربوعها ليل نهار .. فبماذا يمكن أن نفسر هذا؟!!
وجاءت قبلها الحملات الصليبية التاريخية بعدّها وعتدها وخيلاءها بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، لتنهي أسطورة المارد الإسلامي الذي هيمنت عقيدته على أكثر من نصف الأرض، ومكثت الحملات في الشرق حوالي قرنين من الزمان، ثم رجعت وقد بهرت بالحضارة الإسلامية وأخذت نسخا من القرآن الكريم تم ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية، ونشأ علم الاستشراق الذي عكف على دراسة الحضارة الإسلامية وأثرى المكتبة العلمية بمئات المؤلفات عن الإسلام وحضارته .
والذي يحاول أن يدرس الإيدولوجية الإسلامية بعمق وفهم وحيادية فعليه أن يعمد إلى دراسة الإسلام والبحث عن أصوله (الكتاب والسنة )، وما استنبط منها من أصول العلوم الأول، وأن يعمل نوعا من الفصل بين سلوك المسلمين في البقاع والتاريخ، وهذا ما قام به بعض المستشرقين الذين رزقوا حيادية الحكم والفهم، ولم يجرمهم شنئانهم للمسلمين على ألا يعدلوا في الحكم أو أن يشهدوا له بالحق ..
يقول لامارتين في كتابه بعنوان "حياة محمد"" ما من إنسان البتة رسم لنفسه إدراك هدف أسمى مما نوى محمد أن يبلغ ، إذ كان هدفا يفوق طاقة البشر، يتمثل في نسف المعتقدات الزائفة التي تقف بين المخلوق والخالق وإرجاع الله للإنسان، وإرجاع الإنسان لله، وبعث الفكرة الألوهية المجردة المقدسة في خضم فوضى الآلهة المادية المشوهة، آلهة الوثنية، وما من إنسان البتة في نهاية المطاف استطاع أن ينجز في وقت أوجز ثورة على الأرض أعظم أو أبقى مما أنجز هو".
وكذا كتب مايكل هرت في كتابه "الخالدون مائة" وقد وضع محمدا صلى الله عليه وسلم على قائمة الخالدين، وكذا المستشرق الإنجليزي "جورج برنارد شو" في مؤلفه "محمد"، والمهاتما غاندي ، والمستشرق "ويليام مونتجمري" ... وغيرهم .
ثم توالت هذه العدائية الصليبية وإن تدثرت بدثار مختلف، أو تقنعت بغير أقنعة فرسان المعبد أو حماة الفضيلة، وأنصار الرب، أو حماية الأقليات المسيحية في الشرق، والوقوف ضد اضطهاد الأقليات العرقية، أوالبحث عن أسلحة الدمار الشامل، أو القضاء على القاعدة وداعش.. كل هذه الشعارات التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ، تعرفنهم في لحن القول وعلامات المتوسمين، في فلتات جورج بوش الإبن حين أعنها حربا صليبية، أو ريجان الذي أعلن أنه امتداد للحضارة الرومانية ، وأن أعداءها هم أعداؤه، إلى الجنرال شاوشيسكو الذي تبنى التطهير العرقي في البوسنة فبقر بطون الأمهات ووأد الصغار، إلى روسيا القيصرية التي تقصف درعا بالقنابل المحرمة دوليا.. إلى "صمويل هنتنجتون" وصدام الحضارات التي يصنف فيه الإسلام رغم ضعف أتباعه إلى أنه المناهض الأول للحضارة الأوربية، إلى رئيس وزراء المجر الذي يعلن بدون مواربة أن الهجرة الشرقية إلى أوربا تهدد بانحسار أو تراجع القيم الأوربية المسيحية، ويجب إعادة النظر في استقبال الوفود القادمة من المهاجرين إلى أوربا.. وانتهاءً بأحداث (نيوزلندا) التي لا تحتمل أي تأويل سوى العنصرية المعادية البغيضة.
ورغم كل ما سبق ، فإن زحف المارد الإسلامي في الاتجاه الأوربي يتحرك بخطى حتمية طبيعية لا تستطيع أوربا إيقافها، وهي سنة كونية قاهرة ليس لها تبديل أو تغيير، فالقارة العجوز قد تناقص معدل النمو السكاني لها واللازم لاستمرار الحضارة لتعيد بناء نفسها من جديد حتى وصل إلى (1.35)، والمعدل المطلوب حسب الإحصائيات (2.11)، وأي حضارة بمعدل نمو أقل من (1.9) لا تسطيع الاستمرار على المدى البعيد، وعليه فقد أصبح لزاما استعاضة النقص في العنصر البشري الأوربي لتبقى القارة بحضارتها مستمرة ، وهذا ما لا يتم إلا عن طريق الهجرة من الشرق (المسلم) الخصيب، إلى الغرب (المسيحي)، وهو أيضا الذي يهدد بتغيير الهوية الأوربية (المسيحية) على مدى الثلاثين عاما القادمة إلى الإسلام، فيتعادل حجم الوجود الإسلامي في القارة مع المسيحي، أو يفوقه ..وهو ما ينطبق بصورة نسبية على الولايات المتحدة وروسيا ..
إن هذا الزحف الإسلامي الحتمي اللامتوقف، وغير المستطاع التغلب عليه رغم حالة الضعف التي أشرنا إليها للمسلمين وانشغالهم الحثيث باستعادة ترتيب الأوضاع الداخلية، وحالة الاقتتال الداخلي والتمزق السياسي، وتداعي أكلة الأمم على قصعتهم ، إلا أن يدا عليا حكيمة تتولى عنهم إتمام هذا النور وإيصاله لكل بلد وشبر من ربوع الأرض ، كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث تميم الداري " أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ، حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَ الْمَدَرِ، وَبَيْتَ الْوَبَرِ، حَتَّى يُعِزَّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَيُذِلَّ الْكُفَّارَ» قَالَ تَمِيمٌ: «قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي قَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ، وَالشَّرَفُ، وَالْعِزُّ، وَأَصَابَ مَنْ ثَبَتَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ الذُّلُّ، وَالصَّغَارُ، وَالْجِزْيَةُ» المعجم الكبير للطبراني، ومن حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا " (صحيح مسلم ، ومسند أحمد، وسنن الترمذي).
ولكن السؤال المطروح طرحا واجبا: إذا كان الله متم نوره، ومتولٍ نشر دينه رغم أنف الكارهين، وإذا كان هذا الدين سيبلغ مبلغ الليل والنهار كما أخبر الصادق المصدوق .. فأين الدور العربي المنتظر حين يكون هذا الأمر ؟ وما هو موقف العرب تجاه هذه السنة الكونية القادمة ؟ وقد بدا أن الشروق هذه المرة سيكون من الغرب، وأن سنة التولي قد تعاقب الأنصار الأول لهذا الأمر فتستبدل بهم قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم ..
إن اعتناق العنصر الأوربي للإسلام قد يختلف كثيرا عنه في العالم العربي، فهم يبحثون بقلب شغف وعقل يقظ ، وهمهم إثبات الدين لله الحق، فإن توصل أحدهم وهداه الله إلى قناعة بهذا الدين، فإنه لا يأل جهدا من ساعته أن يعمل بكل ما أوتي من علم وفهم وهدى أن يدعو لهذا الدين دعوة صدق وأن يبلغه لو استطاع إلى الناس كافة .. أما نحن أصحاب الإسلام الموروث والفهم المنقوص، فقد أصبحنا ملاصقين لإسلامنا حتى فقدنا الإحساس به، وقد أصبح انفعالنا به، ومما رستنا له روتينية لا يكاد يشعر أحدنا بالآخر.. فلا الإسلام يحس أن له أتباعا يقيمون دينه وينصرونه، ولا نحن نشعر بقيمة الإسلام وعظمة ما استخلفنا الله فيه ووكل إلينا حفظه ..
الصراع القادم هو حالة من الصراع الثقافي الفكري ، قد يتحول إلى نوع آخر من الصراع أو الصدام  ، يكسب فيه الغرب أخيرا، حضاريا بما لهم من السبق العلمي ، ودينيا إذ المرتقب أن يكون حملة المشاعل لهذا الدين ، وسدنة قيمه منهم ، وأن يظل العرب فيماهم فيه .. ذيل الأمم وبقايا الحضارة .

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك