ذبح الهزيلة ضيع لحم السماني

 

علي بن سالم كفيتان بيت سعيد

يقول شاعر من ظفار في القرن الماضي (أهل الحفيص ضربوا على البابور بيمة ... وطلع خبر في السيم عند القنبطاني) (يوم الدخاتر طبهم ما عد عالج   ..... ذبحوا الهزيلة ضيعت لحم السماني) ولا أدري كيف استحضرت هذه الأبيات التي كان يُرددها أحد المشايخ أمامي باستمرار كلما زرته وهو على الفراش ولم أسأله عن المناسبة التي قيلت فيها هذه الأبيات ولا عن الشاعر لكنني وجدت نفسي معجبًا ببلاغة الكلمات رغم أنَّ القصيدة لم تتعد البيتين فقط ولعله من الأهمية بمكان تعريف بعض الكلمات التي وردت بالقصيدة بلهجة أهل ظفار مثل كلمة الحفيص: وتعني الجمرك - والبابور يقصد بها السيارة أو أي وسيلة نقل أخرى وللعلم فقد استعنت ببعض الضالعين في اللهجة لتفسير هذه الكلمات ومع ذلك فقد يكون لها معانٍ أخرى مرادفة أو حتى مختلفة وهناك كذلك عدة قراءات لهذه القصيدة فكلماتها قد تختلف من راوٍ لآخر مع بقاء المضمون.

ولعل البيت الأخير وضع الكثير من التفسير عندما ذكر الشاعر أنَّ ذبح الهزيلة ووضع لحمها وسط السمان ضيع طعم الوجبة وهنا قد يستنتج القارئ أنه ما دام البيت الأول تحدث عن الجمارك والضرائب ورمز لذلك بكلمات واضحة وجلية مثل أهل الحفيص: بمعنى مسؤولي الجمارك أو الضرائب فربما الحديث عن امتعاض من زيادة الضرائب في تلك المرحلة المبكرة من القرن العشرين لكن ما هو المقصود بذبح الهزيلة هنا ومن هم السماني!!! 

إنَّ الاستنتاج الأولي يوحي بأنَّ المساواة في جمع الضرائب بين الغني والفقير ليس عدلاً بل ذلك يُفسد العملية برمتها وهنا إشارة واضحة من الشاعر في قوله (ذبحوا الهزيلة ضيعت لحم السماني) فالمال الذي ينتزع من لقمة الفقير ويخلط بذلك القادم من علية القوم المقتدرين قد يكون وبالاً ونقمة على الذي يجمعه ورحم الله الشاعر عندما قال في بيته الثاني (جمع الدخاتر)، مشيرًا إلى من بيدهم الأمر، حيث إن علاجهم لم يأتِ بالفائدة ومُعالجاتهم لم تشفِ العليل نتيجة الخلط بين الهزيل والسمين طلبًا للعدالة بينهما رغم اختلاف الظروف.

تذكر إحدى الروايات أنَّ هذه الأبيات قيلت عندما حكم على أحد سكان ظفار بالقصاص في تلك الحقبة الغابرة نتيجة قيامه بامتهان السرقة في ظل صمت المشايخ والأعيان رغم علمهم بأنَّ الرجل يسرق لسد حاجة عياله في تلك الظروف الصعبة وكانت معظم سرقات الرجل حسب الرواية بسيطة وهي من المزروعات لكن العدالة أوجبت الحكم والجميع لم يعترض فنطق الشاعر بهذه الأبيات التي خلدت الحدث ويقال بأنَّ هذه هي أول حادثة قصاص في ظفار لذلك ظل العامة يبكون الرجل عدة أيام ويسردون كيف ربط إلى النخلة وأطلق عليه الرصاص.

وفي رواية أخرى ذكر بأنّ عشور الزكاة كان يؤخذ من فقراء المدينة والريف والبادية وفي أحوال كثيرة يعفى التجار وأصحاب الحظوة منه فذكر أحدهم بأن جباة الزكاة لا يتركون صياداً ولا مزارعاً ولا سهلا ولا وادياً أو مفازة في الصحراء إلا أتو وأخذوا نصابها بمعاونة المقادمة والشيوخ فسماهم العامة فيما بعد بشيوخ الزكاة ورغم ما يُقدمونه من خدمات للرعية والحكومة على حد سواء إلا أنهم غير مرحب بهم فيما يرى الشيوخ بأنَّ ذلك يجعلهم أقرب للحكم مما يمكنهم من فك مشاكل رعيتهم مع السلطة فتجدهم يكفلون المسجون ويطلبون العفو له فيستجيب الوالي في أحيان كثيرة لذلك ظلت هذه المعادلة قائمة على المصالح إلى حد ما بينما شاعرنا لم ير في ذلك عدلاً فقال أبياته المشهورة تلك.

يظل الرفاه الاجتماعي محل ترحيب الرعية ورضاهم عن السلطة وتجاوبهم معها وعلى النقيض فإنَّ الانكماش الاقتصادي وفرض الضرائب يولد الشعور بعدم الرضا ويقود للعصيان ويُشكل بيئة مثالية لنشاط المشككين في قدرة السيطرة على الأمور ومُعالجتها وهنا يدب الخمول في جسد المجتمع ويسود التذمر وخاصةً إذا تمت المساواة بين الغني والفقير في تحصيل الحقوق العامة وهناك شواهد تاريخية كثيرة بأن معظم حالات الخروج على السلطات ناتجة من رفع الضرائب على العامة لتغطية خلل السياسات الاقتصادية غير الموفقة ولا شك أنَّ هذا الشاعر بهذه الأبيات القليلة عالج وضعًا عامًا كان سائداً في حقبته تلك. رحم الله بن أسلم الشنفري فأغلب الروايات تذكر بأنَّه صاحب هذه الأبيات الخالدة.

alikafetan@gmail.com