العضو الضرورة في "الشورى"

علي بن مسعود المعشني

التجربة البرلمانية في السلطنة -والمتمثلة في مجلس عُمان (الدولة والشورى)- تجربة فتية، ولا تزال تتشكل وتتلمس لنفسها هُوية وخارطة طريق، وحين أقول التجربة البرلمانية فأنا أقصد ذلك كونها تجربة منشأها الغرب، ورغم حاجتنا لها كمنتج إنساني، إلا أنها كنموذج لا يُشبهنا من حيث الآليات والتكوين والثقافة؛ فالثقافة البرلمانية تختلف في شكلها عن الثقافة الشوروية في الشكل، وتلتقي معها في الفلسفة والقواعد العامة والهدف.

رُبما يتعجَّب البعض من طرحي هذا، ويعتبره تغريدا خارج السرب، قياسًا على إسقاطاته الذهنية بأهمية التجارب البرلمانية في حياة الشعوب، ولزوميتها للدولة كمؤسسات رقابية وتشريعية وخلافه. وربما البعض الآخر ينتقد طرحي هذا من زاوية تعدُّد الأسماء والغاية واحدة، أي أنَّ العِبرة في تحقيق الأهداف والفلسفة العميقة من التجربة ومخرجاتها من نفعٍ على الأرض دون الحاجة للالتفات نحو المسميات. وكلا الرأيين مُقدَّر ونتفهمهما ونتوقعهما، لكنَّني أنطلق من قواعد وقناعات أخرى لهكذا تجربة وعمل مؤسسي، والذي أؤمن بضرورته، لكنني أختلف مع الكثير في طريقة أدائه وطوره وماهيته وهويته، حيث أعتقد -إلى حدِّ اليقين- أنَّ هكذا تجارب لابد أن تنبع من حاجات المجتمع، وأن تشبهه إلى حد التطابق. وقد سَبق لي الخوض في تجربة الشورى في السلطنة، ونقدتُها نقدًا معرفيًّا ولازلت أعتقد أنها تجربة سابقة لحاجتنا في هذا الطور من عُمر دولتنا العصرية الفتية، وتحتاج إلى الكثير من لمسات الرعاية والتهذيب، والكثير من الصبر والوعي لتهيئة المناخ السوي لنموها ورشدها وإثمارها. وقد عبَّرتُ عن قناعتي ونظرتي للتجربة "البرلمانية" في سلطنتنا الحبيبة في مقال سابق بعنوان: (لا) للشورى.. (نعم) للبلدي، بيَّنتُ فيه أنَّ أولوياتنا اليوم تقتضي تعزيز وتوسيع تجربتنا في المجالس البلدية؛ كونها تجربة عُمانية متراكمة أولًا، وكَون الوطن والمواطن في هذه المرحلة من عُمر الدولة يحتاج الخدمات قبل التشريع والرقابة، واللتان يفترض أناطتهما بأجهزة مختصة. كما أنَّ تجربة الشورى وفق معطياتها وبنائها الحالي، ستصل بنا إلى استنساخ تجارب ظاهرها رحمة وباطنها عذاب؛ حيث سيُصبح الخطاب الشوروي بمعزل عن خُطى وخطط وأولويات وممكنات السُلطة التنفيذية (الحكومة)؛ فينحرف بنا الهدف والغاية من الرِّهان على أن الشورى رديف ومكمل للحكومة (وهو الطبيعي والمراد في التجارب البرلمانية) إلى مناكف لها. وقد ذَكرتُ في مقالي المشار إليه، رُؤيتي حين تكون الضرورة والمصلحة تقتضيان مواصلة السير في تجربة الشورى؛ حيث أقترحتُ تهذيب التجربة وتطعيمها بالحاجة العُمانية، وهي تجربة الانتخاب على "الكوتة"؛ أي تقسيم المترشحين إلى لوائح مهنية (قانونيين، تربويين، اقتصاديين، مثقفين، أكاديميين...إلخ) لضمان المهنية والتخصص وثراء اللجان المتخصصة، ورفع سقف احترافيتها وعُمق مُخرجاتها. وكان مقترحي الثاني هو إمكانية دمج المجلسين الدولة والشورى عمليًّا تحت اسم مجلس عُمان، وأن يكون نصف الأعضاء بالتعيين والنصف الثاني بالانتخاب، مع توحيد اللجان وآليات العمل. وبهذا؛ نرفع سقف المهنية والمخرجات بدمج الكفاءات المُعينة والمنتخبة معًا، ونُرسخ تجربة عُمانية تعزز من ثقافة الواقعية والممكنات عبر المزج ما بين الخبرات الحكومية والعناصر المُنتخبة، وهنا تتزاوج وتتداخل النظرية والتطبيق معًا.

وبالعودة لعنوان المقال ومضمونه، أسردُ شيئا من تجربتي وتوصيفي لتجربة الشورى ومنذ نشأتها عام 1991م، بحكم مساهمتي بها خلال الفترات الثانية والثالثة والرابعة كموظف في الأمانة العامة للمجلس، ثم مراقبًا لها بحكم اهتمامي ومتابعتي للشأن العام ككاتب صحفي؛ وسأحصُر حديثي هنا عن أصحاب السعادة الأعضاء والفئات التي يُمكننا تصنيفهم بداخلها، وهي فئات لا تشذ مُطلقًا عن التجارب البرلمانية في دول العالم، إلا ببعض الرتوش البسيطة إذا ما جازت العبارة.

يُمكنني تقسيم الأعضاء في كلِّ دورة إلى الفئات التالية: فئة خاملة، وفئة متخصصة ولكن غير مبادرة، وفئة فاعلة ومبادرة وعقلانية، وفئة استعراضية، وفئة مشاغبة أو هكذا تبدو، وفي المجمل العام للتوصيف، فإنَّ جميع الأعضاء يُكملون بعضهم بعضًا ولا يختلفون -بحسب علمي ومتابعتي- عن نظرائهم في المجالس البرلمانية. وعضو مجلس الشورى في سلطنتنا الحبيبة، ومن باب الأمانة والإنصاف، ينطلقُ من عُمانيته الخالصة في تعاطيه مع الأحداث والشؤون من حوله، كما تؤطر حركته ومداخلاته وآراؤه الأخلاقَ والقيمَ العُمانية، مهما ارتفع صوت الخلاف أو حدة الطرح، إلا أنَّ الكرامات والمقامات تبقَى محفوظة ومحترمة ولا يتعدى الطرح المسؤوليات والشأن بفصل تام عن الشخصنة والتجريح والتشهير، والذي نرى شيئًا منه هنا أو هناك. لهذا؛ فحين نُقيم تجربة الشورى وأداء الأعضاء فيها يجب ألا نقفز فوق الواقع، وألا نحاكم التجربة بغير أدواتها من حيث النشأة وتراكم التجربة وأعراضها وإفرازاتها الطبيعية، والتي قد تبدو للبعض غريبة ومستهجنة في بعض الأحيان. ويجب علينا التسليم بأنَّ تجربة الشورى لن تكون بمعزل عن ثقافتها العالمية المتعارف عليها، ونحن في السلطنة جزء من هذه التجربة؛ لهذا لابد لنا أن نرى شيئا من المألوف، وشيئا خارج المألوف في بعض الأحيان؛ ففي الثقافة البرلمانية تكون المجالس حكومات ظل، بل وتسمِّي في بعض النماذج -مثل بريطانيا- أشخاصًا برلمانيين بأسماء وزير كذا في حكومة الظل تجسيدًا لهذا المبدأ، والمجالس البرلمانية في العرف والقانون الدستوري سُلطة رقابية وتشريعية، ولكن الفارق بيننا وبين التجارب العريقة أن العضو لديهم يتحرك في هامش واسع وثقافة عريقة وراسخة، بينما لدينا لا يزال العضو بين حيرتين: حيرة الصلاحيات على الورق، وحيرة مقتضيات الواقع. والفرق بيننا وبينهم كذلك أنَّ العضو لديهم أو التكتلات لا تتورَّع عن سلوك التشهير والقدح والاستهزاء بشخص المسؤول؛ حيث يطفو عنف اللغة بقوة على التداولات والطرح في كثير من الأحيان، ويسود الاستعراض الشخصي والتنابز، وقد يصل الأمر إلى كشف أسرار الدولة من قبل أغرار الثقافة البرلمانية بقصد إحراج مسؤول ما في خلط فاضح بين شخص الوزير والدولة، ولا تخلو الأمور من الكيديات بين التكتلات واللوبيات لغرض تسجيل النقاط، وتحقيق المنافع الشخصية في بعض الأحيان، بينما لا تزال تجربتنا بعيدة كل البُعد عن هكذا سقوط بسبب القيم المؤطرة لها.

سعادة المهندس أحمد الهدابي يُذكِّرني في طرحه ومداخلاته بعددٍ ممن عاصرتهم من الأعضاء الذين تدفعهم فطرتهم ووطنيتهم للحديث بكل عفوية ودون تصنع أو انتقاء عبارات بعينها، ورغم توصيف البعض له من المراقبين عن بُعد لتجربة الشورى بالحدية في الطرح، إلا أنني أقول إنَّ وجوده ضرورة كشخص وكحالة، فنحن في تجربة برلمانية برعاية سامية ويُراد لها التطوير والإثمار، وأصحاب السعادة الأعضاء مواطنون رشداء وأسوياء في طرحهم ومساعيهم، وخلفهم مجتمع محلي في كل ولاية يطالبهم بالإنتاج ويحاسبهم ويقيمهم على طريقته؛ الأمر الثاني يجب أن نكون عقلانيين ومنصفين في وصف بعض تصرفات وردود ووعود أصحاب المعالي بأنها مجلبة لتلك ردود الأفعال من الأعضاء، وفي كل دورة للمجلس، وهذا مرده في تقديري إلى وجود هوة كالخيط الرفيع تحكم علاقة السُّلطة التنفيذية بالسُّلطة التشريعية في سلطنتنا الحبيبة يتراوح منسوبها ما بين الفجوة والقطيعة في بعض الأحيان، وهذا ما يوجب البحث الجاد في ردمه وتجسيره، وألا ننظر إليها بعين النقيصة ونخجل من توصيفها والإقرار بها وعلاجها، ومردُّ ذلك في تقديري يعود لموروث اختزال الدولة في ذات الحكومة من ناحية، وإلى نقص وتفاوت منسوب الوعي بالثقافة البرلمانية لدى الأعضاء، والزمن وحده كفيل بالعلاج.

وفي تقديري وقناعتي الدائمة، أنَّه كلما وسعت السُّلطة التنفيذية وسعت لتوسيع دائرة المشاركة وصناعة السياسات والقرار مع المؤسسات التشريعية؛ والمتمثلة بمجلس عُمان، ومعهما المجالس البلدية، كلما خف الحمل والمسؤوليات والحرج والمساءلات على السُّلطة التنفيذية، وتقاسم الجميع المسؤولية والإنجاز معًا.

وبالشكر تدوم النعم...،

-----------------------------

قبل اللقاء: منطُوق الحِكمة لمولانا -حفظه الله ورعاه- في الجامعة عام 2000م، بعدم السماح بمصادرة الفكر، واعتبار الاختلاف دليلَ ثراء وقوَّة للمجتمع، ليس عبارة لدغدغة المشاعر ولا لغرض انتخابي بلاشك، بل هُوية دولة ورُؤية سُلطانية حكيمة، وإطار عمل للدولة ومؤسساتها.