الثورة بلا قيادات (3)

محمد علي العوض

في كتابه "الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين" يعتبر الدبلوماسي البريطاني كارن روس أنّ النظام في العالم معطل، ويسهم في إيجاد مزيد من الفوضى.. الأمور لا تسير كما هو مخطط لها، فالحلم بانتصار الديمقراطية والاستقرار بعد انتهاء الحرب الباردة أضحى سرابا، والذين كانوا يظنون أنّ من شأن العولمة أن تدفع الجميع للانطلاق نحو موجة أبدية من الصعود والازدهار لم يحصدوا إلا اليأس وخيبة الأمل؛ لأنّ التاريخ سارع إلى تدشين فصل آخر عصي على التنبؤ.

وبالرغم من أن الانفتاح على الأسواق في الصين والهند حرر مئات الملايين من الفقر إلا أنّ العولمة تمخضت عن تقلبات اقتصادية حادة غير قابلة للتحكم؛ تريليونات الدولارات تنتقل من رصيد إلى رصيد في لمح البصر.. بنوك وبلدان كاملة تنهار دونما إنذار ملموس.. الهوة الفاصلة بين قلّة الأغنياء وأكثرية الفقراء تزداد اتساعا.. ارتفاع حاد في أسعار الطاقة والغذاء عالميا. بجانب إفراز آخر للعولمة وهو أنّ المنافسة الكوكبية على الاختصاصات والمهن باتت تعني زوال فرص العمل الآمنة والمضمونة؛ فالصناعات التي صمدت أجيالا تنهار الآن بسهولة في بضع سنوات؛ إذ قليلون هم من يستطيعون الحلم بتقاعد آمن أو مريح.

ويصف كارن وعود الرأسمالية بجعل العالم أكثر رخاء أو سعادة بأنّها فارغة؛ لأنّ منافعها باتت حكرًا على أقلية معيّنة ومقسّمة بلا تكافؤ أو عدل، فقد ابتكرت الرأسمالية ثقافة تمجيد أسوأ ما في الطبيعة البشرية؛ من جشع وتشيؤ وحب تملك واستحواذ وبراغماتية.. العمل في عصرنا - الرأسمالي – الحالي إما أن يكون مهينا أو مذلا وأحيانا مملا.

ويذكرنا ذلك بمقالة خطّها الفيلسوف البريطاني "برتراند راسل" بعنوان "في مدح الكسل" ذكر فيها أنّه كانت هناك طبقة صغيرة مترفة وطبقة كبيرة كادحة؛ وكانت الطبقة المترفة تتمتع بامتيازات لا أساس لها من ناحية العدل الاجتماعي، وقد أدى هذا بالضرورة إلى تحويل هذه الطبقة المترفة إلى طبقة ظالمة، محدودة في إشفاقها وعطفها.. ويُذكِّر كذلك بما قاله "إدوارد لوتواك" في مقالة "الاستهلاك من أجل الحب" حول أنّ الرأسمالية تقدم "العمل" كمعالج ومصدر رئيسي للإشباع العاطفي بديلا عن الحب، ويتم استغلال هذا الإشباع للقضاء على أي عجز عاطفي ولبذل المزيد من العمل؛ واصفا هذا العلاج بأنّه غريب ولا يعالج حالة الروابط العائلية الميؤوس منها؛ لأنّ العمل في حد ذاته مدمر للروابط العائلية.

يوضح مؤلف الكتاب أنّ سمة احتكار السلطة المتفشية في أنظمة الحكم الديكتاتورية أصبحت تتجلى الآن أكثر في عهد الأنظمة الديمقراطية؛ ففي الولايات المتحدة تتفوق جماعات الضغط على المُشرّعين؛ بل إنّ هناك جماعات ضغط من أجل جماعات الضغط، والتشريعات أحيانا لا تُسن إلا لتمكين الأحزاب من تحصيل ريوع من مصالح الشركات؛ السخيّة بدورها مع جميع الأطراف من أجل حماية مصالحها.

يفصح مضمون كتاب "الثورة بلا قيادات" عن أربعة أفكار بسيطة؛ تتمحور الفكرة الأولى حول أنّ تحرك فرد أو جماعة صغيرة في نظام القرن الواحد والعشرين يمكن أن يؤثر في مجمل النظام وبسرعة فائقة؛ فحركة البوعزيزي فجّرت ثورة الربيع العربي.. وحركة "تيموخين" حينما اقتحم صفوف الفرنسيين في معركة "شونغرابيرن" كانت كفيلة بتحويل الهزيمة إلى نصر كان بعيد المنال عن الروس.. أفعال غاندي الفردية السلمية لمقاومة الاستعمار أثّرت في مجمل النظام البريطاني وأظهرت جدوى اللاعنف.. رفض الفتاة الانتقال إلى مؤخرة الحافلة في خمسينيات القرن الماضي بالجنوب الأمريكي أطلق الرصاصة الأولى على سياسات التمييز العنصري في الولايات المتحدة والعالم أجمع.

الفكرة المفتاحية الثانية للكتاب هي "الأفعال هي المقنعة لا الأقوال" فوسائل التواصل الاجتماعي من شأنها أن تثقف وتنظم الجماعات ولكنّها تظل عديمة القيمة ما لم تترجم إلى أفعال محددة، كما يمكن للبيانات والدعوات والخطب أن تحشد الرأي؛ لكن المحك الحقيقي يكمن في "التحرك".

وتتعلق الفكرة الثالثة بـ "الترابط والنقاش" فالقرارات تكون أفضل حينما تنبع من النّاس الأكثر تأثُّراً، وقد أثبتت التجارب أنّه كلما اتخذ الناس قراراتهم بأنفسهم كلما كانت النتائج لافتة ومثيرة، فوجهات النظر في هذه الحالة تكون مسؤولة، وتضع السياسات في حسبانها مصالح الجميع مع توافر الشفافية. وتحيلنا هذه الفكرة إلى دعوة كارن لممارسة ديمقراطية أشبه بالتي كانت سائدة في اليونان القديمة؛ حيث كان المواطنون يجلسون لمناقشة شؤونهم العامة المشتركة وحلها.

ويحيلنا "الترابط والنقاش" إلى الفكرة الرابعة وهي موضوع "الوكالة" وكيفية استعادتها؛ أي استعادة سلطة حسم الأمور بأنفسنا؛ حيث يقول المؤلف: "إذا استرجعنا الوكالة، واقتربنا أكثر من إدارة شؤوننا بأنفسنا؛ فإنّ شيئاً آخر قد يحصل أيضاً: قد نحصل على نوع من الإنجاز والإشباع، بل ربما حتى على نوع من المعنى الذي كثيراً ما يبدو مراوغاً في الظرف المعاصر".

يذهب كارن روس في كتابه "الثورة بلا قيادات" إلى أنّ العنف يمكن أن يؤثر سلبا على حركة التغيير، وأنّ السلمية لا تعني الضعف أو العزوف عن الفعل؛ بل هي منهج قادر على الإتيان بنتائج فعّالة كفيلة بحل المشكلات السياسية المعقدة، كما أنّ تجنبها للأذى وإراقة الدماء يمنحها مزيدا من السلطة والمرجعية الأخلاقية.. ويدرج الكاتب أشكالا لهذه الممارسات السلمية التي يمكن عبرها مقارعة النظام؛ من بينها:

المقاطعة: ويعني بها مقاطعة أي مؤسسة يستمد منها النظام قوته أو تخدم غرضه كالمؤسسات المالية والمرافق الخدمية مدفوعة القيمة كالكهرباء والماء والرسوم أو أي منتج آخر ذي صلة بالنظام، وكذلك مقاطعة مؤسساته الاجتماعية والثقافية والإعلاميّة.

العزل: ويعني به سحب التأييد الاجتماعي من الأفراد الموالين للنظام الباطش أو المستبد أو يشجعون سياساته أو يساعدونه على وأد أحلام الجماهير وتطلعاتها نحو الأفضل.

التخريب: الكلمة للوهلة الأولى نفهمها تحت قائمة العنف، لكن روس يعني به التخريب اللاعنفي، ويشترط حضوره في ظروف قصوى؛ ظروف الجور والقمع الشديدين؛ بعد أن تكون حملة الطرق السلمية قد أخفقت، ويتجلى مثال ذلك في الفيروسات الحاسوبية وعمليات القرصنة والتهكير، وغيرها.