علي بن مسعود المعشني
في عام 1979م، وبمُجرد تكشف هوية الثورة الإيرانية وإعلان قادتها بوصلة القدس والقضية الفلسطينية كهوية لسياستها الإقليمية، سوق الغرب وبقوة – وعلى رأسهم أمريكا - الثورة الإيرانية على أنَّها الخطر الأكبر على الأمن والسلم الإقليمي والدولي وأنها دولة تصدر الثورة إلى جوارها والعالم، وصنف الغرب إيران على أنَّها دولة مارقة وخطر على الشرعية الدولية وفق "البورد" الأمريكي لتصنيف الحلفاء والخصوم والإرهاب.
أبقى الغرب في أدبياته السياسية على إيران الثورة كدولة من "محور الشر" وفق تصنيفه حين عجز عن كسرها أو حرف بوصلتها السياسية بعد حرب السنوات الثمانية العجاف بينها وبين العراق، وتفرغ مؤقتًا لتسويق عراق/صدام بقوته العسكرية الهائلة بدولة شر والخطر الذي يُهدد الإقليم والعالم وروج لقدرة العراق حتى على تسميم الهواء الذي يستنشقه الناس!! وبعد احتلال العراق وتدميره والتنكيل به عام 2003م، تفرَّغ الغرب ووجه بوقه الدعائي لشيطنة ما تبقى من نُظم ما سمي بـ"جبهة الصمود والتصدي" الرافضة لاتفاقية كامب ديفيد (سوريا، ليبيا، الجزائر، اليمن، ومنظمة التحرير الفلسطينية) وكانت أداتهم ما سمي بالربيع العربي.
أمريكا ترامب والتي أعلنت عن إلغائها للاتفاق النووي الذي أبرمته إدارة الرئيس أوباما ومن طرف واحد هي نفسها من أدرك سريعًا خطورة خطوتها تلك وفداحة تداعياتها بعد تمسك بقية الأطراف بالاتفاق وعلى رأسهم شريك أمريكا المُباشر والرئيس وهو الاتحاد الأوروبي، وبعد تبين قدرة إيران على المُناورة لكسر الحصار الأمريكي الاقتصادي والذي اكتسبته بفعل تراكم التجربة ومنذ اندلاع الثورة عام 1979م. يضاف إلى ذلك تأييد محكمة العدل الدولية - وبحكم قضائي صدر مؤخرًا - لحق إيران في استعادة أموالها المُجمدة حول العالم بفعل "البلطجة" الأمريكية. الإدارة الأمريكية وفي عميق وعيها – ومن مُعطيات التجارب - تدرك أهمية إيران واستعصائها على التطويع أو التركيع بالقوة المسلحة أو الحصار، لهذا سارعت إدارة ترامب نفسها إلى فتح أقنية سرية عبر وسيطين (أحدهما عربي والآخر أوروبي) للتواصل مع القيادة الإيرانية وإبلاغها باستعداد الرئيس ترامب لزيارة طهران ولقاء المرشد الأعلى للثورة، وهو العرض الذي رفضته إيران واشترطت لتحقيقه إعلان أمريكا عن رفع الحصار والعودة إلى الاتفاق النووي أولًا، فإيران لن تُهدي الإدارة الأمريكية ورقة إعلامية تسوقها للعالم وكيفما تشاء عبر لقاء "بروتوكولي" بين ترامب والمرشد الأعلى. ينعقد مؤتمر وارسو اليوم – وكما هو واضح - لشيطنة إيران وتسويق التطبيع وصفقة القرن وتقوية حظوظ نتنياهو للترشح القادم بالتزامن مع تشكل محور أستانة/سوتشي القوي والفاعل في المنطقة (روسيا، إيران، تركيا)، وبالتزامن مع حوار فلسطيني شامل برعاية موسكو، ومسيرات العودة في فلسطين المحتلة، وفي زمن أصبح مفتاح العودة شعارًا بيد أطفال فلسطين قبل شبابهم وشيبهم وقبل كل ذلك معافاة سوريا من الإرهاب وخروجها قوية وموحدة ومنتصرة، واستحواذ محور المقاومة (سوريا، إيران، حزب الله، فصائل المُقاومة الفلسطينية) على جملة من الأوراق السياسية والعسكرية والأمنية الوازنة، والتي تجعل منهم الرقم الصعب والعصي في المنطقة برمتها. وبالتالي لا يُمكن مجرد التفكير أو الحديث عن توجيه ضربة عسكرية لإيران ولا تمكين التطبيع ولا تمرير صفقة القرن دون الالتفات إلى جميع هذه الحسابات والظواهر الشاخصة أمام أعين الجميع والاعتراف والإقرار بها أولًا. وهذا ما يجعل العقلاء يتساءلون عن رهانات عرابي مؤتمر وارسو ورعاته وحضوره!؟ فالمؤتمر عُقد في الزمن الخطأ والتوقيت الخطأ والمكان الخطأ والمكاسب الهزيلة ومن حضروه من العرب ارتكبوا خطايا لا تُغتفر سيبينها لهم التاريخ وقادم الأيام . بعض الدول العربية التي حضرت المؤتمر هي أقرب ما تكون إلى من قرر الانتحار وهو بكامل إرادته مع غياب تام بلاشك لوعيه وإدراكه لنتائج هذا الحشد والتجييش وجدول أعمال المُؤتمر وتوقيته، فقد قررت هذه الأقطار على ما يبدو خوض حروب مجانية مفتوحة وبالوكالة وعلى جبهات لاتُحصى في الداخل والخارج، والخوض في مصائر مجهولة لها على صعد التاريخ والجغرافيا والإسلام والعروبة وهي في الأساس أقطار تُعاني وفق قواعد السياسة من كافة أعراض ومظاهر الاستقرار القلق.
تبقى جملة من الأسئلة المحيرة والتي ستجيب عنها قادم الأيام وهي: على ماذا تُراهن أقطار عربية في هرولتها نحو التطبيع وفي الوقت الضائع!!؟ وما مصلحة هذه الأقطار في رفع شعبية نتياهو والتنفيس عنه وعن كيانه الصهيوني المخنوق نفسيًا وعسكريًا وجغرافيًا!؟ وماهي مكاسب هذه الأقطار من استعداء بلد حيوي كإيران والتنكر لقضية عربية وإسلامية وإنسانية مصيرية وعادلة بحجم قضية فلسطين!!؟ والسؤال الأهم هو: ما الذي يمنع أمريكا من التصالح مع إيران غدًا وتصنيفها لبعض الدول وتسويقها كدول مارقة عبر فتح ملفات أزمات الجزائر وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن والصومال والشيشان والبوسنة والقوقاز وكشمير والأهواز وغيرها!!؟
قبل اللقاء: سنكتشف عن قريب أنّ مؤتمر وارسو مجرد ظاهرة صوتية من زمن العربدة والصلف الأمريكي، فأمريكا لم تستوعب بعد التحولات الكبرى من حولها والتي تسببت في تقليم أظفارها ونفوذها وانحسار هيبتها، الأمر الذي دفعها قسرًا إلى انتهاج الحروب بالوكالة وعبر أدوات "قزمية" ووسائل غير أخلاقية. وأن وارسو مجرد غرفة إنعاش ومحفل مواساة ومشروع ترميم للكيان الصهيوني المُتصدع... وبالشكر تدوم النعم.