طفل شارع المطاعم


عمران الحمادي | اليمن

متجمهرون في الشارع ذاك يُشعل بقداحته العوجاء سيجارة رقيقةً يابسة، وذاك يستنشق دخان الآخر، تجمعهم أغاني فيصل علوي الراقصة، التي تُصدر من أحد المقاهي، منذ الصباح الباكر، يجتمع الناس، البعض يأكل خبز طاوة مع كوبٍ من الشاي الأحمر، والبعض الآخر يأكل خميراً من دكان صغير في نهاية الشارع، كلُ من يأتي ليشرب أو ليأكل، يغادر بعد أقل من ساعة، لعمله  أومنزعجاً من روائح الدخان المنبعثة من المقاهي والمطاعم الصغيرة، والضجيج العالي المنبعث من أصوات مرتادي الشارع والباعة.
وحده طفلُ الشارع، يتواجد في كل الأوقات، صار مُعتاداً على الضجيج  والدخان، اتخذ من ثلاجة تالفة مرمية في نهاية الشارع مخدعاً  يأوي إليه كلما أُتيحت له فرصة للنوم ، وجعل من بقايا ثياب مقطعة ملقاةً على طرف الشارع "بطانية له"،  الطفل الذي لا يتجاوز العاشرة من العمر، يعمل طوال اليوم في جمع أكواب الشاي، عند أحد أصحاب المقاهي، ولا ينام إلا ساعات قليلة .
وجههُ ليس كباقي وجوه الأطفال التي تُشع منهُ براءة الطفولة، فالخطوط الشاحبة على وجنتيه توحي وكأنه  في العشرين من عمره، لقد اكتسب تلك الخطوط الشاحبة من العمل الشاق، وسهره طوال الليل في الشارع.
منذ الوهلة الأولى  لدخولي  الشارع الضيق ، حدق في عيني، كأنه يعرفني  منذ زمن طويل، أطلق لي ابتسامةً صادقة، شربتُ كأساً من الشاي الأحمر،أتى  طفلُ الشارع يحوم حول الطاولة التي أجلسُ عليها ليفوز بكأسي الفارغ، قبل منافسيه من العُمال من الذين يلتقطون الكؤوس الفارغة، بعد ارتيادي لأكثر من مرة على شرب الشاي في اليوم الواحد، من مقهى وسط الشارع، مجرد أن يلمحني، يبتسم لي وكأنه يقبلني بحرارة ، اهـ كم تمنيت أن تحظى  يدآي وعيناي بتقبيله، إلا أنني لم  أجرؤ على ذلك، هاهما شفتاي وعيناي الآن تخوناني.
في  أحد الأيام أتيت الخامسة فجراً لم يكن الشارع كعادته مزدحماً، أخذتُ كوباً من الشاي  الأحمر وجلست على إحدى الطاولات الهشة المتسخة، ارتشفتُ الرشفة الأولى لمحني طفل الشارع فإبتسم لي، ابتسامةً كانت مختلفةً عن سابقتها من الإبتسامات، عجزتُ عن تفسيرها، آه كم أنا خائن،حين لم أستطع أن أبعث له ابتسامة حميمة وصادقة، كما فعل معي  في المرات السابقة، تأمل  كأسي، وقد نزل للمنتصف، ناداني للجلوس على رصيف الشارع المشبع بالبرودة، المتسخ ، المشوهالرائحة، كان باسطاً رجليه على بلاط الشارع، بادرني بتحية صباح الخير ياوسيم، إاتسم في وجهي  ابتسامة غريبة، اكتفيتُ أنا بالتحديق في عينيه، كنتُ منذهلاً للغاية، من حواف عينيه، المزرقة ، التي تشكلت كسحابة منتفخة تكاد تنفجر، قلت في  نفسي ماذا يعاني هذه الطفل، أكملت كأس الشاي ورميته بعنف، ضحك، وسألني:
لماذا تأتي إلى هنا؟، هل تعاني من الفراغ الداخلي، آه كم أنا خائن  لنفسي وللطفل، حين لم أستطع الرد على سؤاله، كنت  مرتعباً من سؤاله، انشغلتُ بالتدقيق والفحص، في ملامح وجهه الشاحب الباهت، لمس يدي لمصافحتي، لكن سرعان ما سحبتُ يدى من يده، لم أستطع  تحمل ذاك الشعور، فباحة يده أصبحت كأسنان المنشار، دمعت عيناهُ، لم أجرؤ على سؤاله عن سبب انهمار  الدموع بغزارة  من عينيه.. اختصر وجعه وحزنه وضجيج الكون كله بكلمة واحدة  سألني بها، لماذ؟
أطلقه هذه الكلمة مع تنهيدة حارة، كأنه لم يتنفس منذُ سنين، ألجم على لساني لفترة محدودة من الوقت،  بسؤاله المرير، سألته بعد ما قدرت على  تحريك لساني سؤالاً: ما اسمك؟  :أنا ياسيدي، لعنةً حتى الموت لا يريدني، لم يعلم هذا الطفل أن مرتادي الشارع هم مزيفون منافقون، يرتدون كل يوم قناعاً مزيفاً .
ظل كلٌ منا يحدق في تفاصيل وجه الآخ، اكتفينا بالنظرات لفهم معاناة ووجع أرواحنا، برودة الشارع نالت منا، أطلنا النظر وإذا برشاش ماء دافئ انصب علينا وغمرنا، أحسسنا معا بانتعاش رائع، فالنظرات، كانت كافيةً ليتقاسم كلُ منا وجع الآخر، انزوينا متواريين عن الأنظار، خلف مطعم العزعزي للفول، أطلق طفلُ الشارع، نوبات ضحك قوية، سرح بعدها في نوم عميق.
                                                                 

 

تعليق عبر الفيس بوك