أثر التضاد في تقدم الأمم

حمد بن سالم العلوي

ليستْ مقولة عابرة "رُبِّ ضارة نافعة"، وحتى نؤكد صحة ذلك علينا أن نستعرض بعض الحوادث التاريخية، من التاريخ القديم والمعاصر، وذلك لكي نرى كيف كان التضاد والتنافس له تأثير إيجابي في الحياة، وإن وجود ضد يُعدُّ شيئاً مفيداً لتحفيز الدول على التقدم بالابتكار، وكيف يكون الخمول والتراخي بسبب الترف ودعة العيش الرغيد مفسدة، وكم هو مضر على المستقبل القريب أو البعيد، ولقول الشاعر مصداقية في ذلك عندما يقول: "إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة". إذن؛ فبحبوحة الرخاء والرفاهية تمثل مشاعر فارغة في معيار الحياة الكريمة؛ إذا لم يرافقها شعور بالخوف من زوالها أو حتى ضعفها، أو طمع الآخرين فيها، ولكن هل نستطيع القول: إن الذي يبتلى بعدو عاقل كان محظوظاً، وذلك لوجود حافز خارجي، يدفع به إلى الحيطة والحذر، وصنع الروادع الضرورية لحماية المسيرة التقدمية في الداخل؟!

فهذه قصة تفيد بأنَّ الشدائد تصنع التاريخ؛ فهذا مالك بن فهم الأزدي الذي اضطره انهيار سد مأرب لمغادرة اليمن السعيد، في الألف الثاني قبل الميلاد إلى أرض عُمان، لكنه اصطدم بضدٍّ قويٍّ وغير متسامح، كان يسيطر على أجزاء كبيرة من  عُمان، ألا وهو المرزبان ممثل كِسرى على عُمان، فأراد أن يرغم مالكاً على مغادرة عُمان إلى حيث أتى، فرأى مالك أن ذلك غير ممكن له بعدما قطع مسافات طويلة حتى وصل "بهلاء"، وربما كانت المركز الأهم في عُمان في ذلك الزمان، فقرر منازلة الفرس من أجل البقاء أو الموت بشرف، فقاتل وانتصر فكان هو السيد على عُمان بعد النصر المؤزر، رغم فارق القوة وكثرة المدد في جانب قوة المرزبان، وانتقل بقيادته إلى صحار؛ حيث اتخذها عاصمة لدولته، ثم هكذا حدثت الحال نفسها مع ابنه "سُليْمة" عندما شعر بالخوف من اخوانه الذين ظلموه كظلم إخوان نبي الله يوسف، فهرب إلى برِّ فارس فأقام مملكة عربية هناك، وكان الدافع الخوف أيضاً.

لقد احتلَّ البرتغاليون السواحل العُمانية، وكان ذلك إثر خضوع العُمانيين للشعور الخاطئ بالأمان الذي أدى لضعف أركان الدولة، وتفرُّق الكلمة وتشتُّت الناس، فعاثَ المحتلون فساداً في الأرض، ولأنَّ الدم العُماني الشريف لا ينام على الضيم؛ الأمر الذي دفعهم لاختيار ناصر بن مرشد اليعربي إماماً وقائداً لعُمان، فطرد البُرتغاليين من السواحل العُمانية، وطاردهم من الخليج وسواحل شبه القارة الهندية، ولاحقهم حتى السواحل الإفريقية، وبناء قوة بحرية عظيمة خوفاً من عودة البرتغاليين، وقد تعدَّت هيبة قوته البرتغاليين إلى الروم والفرس، ونشر القلاع والحصون في كل ربوع سلطته مترامية الأطراف، أكانت في عُمان أو الخليج وشبه الجزيرة العربية، وبعض السواحل الغربية للقارة الهندية، ولا تزال تلك القلاع والحصون قائمة إلى اليوم إلا ما تُعمِّد هدمه منها.

وفي العصور الحديثة، قرأنا كيف تعرَّضت اليابان إلى غزو نووي أمريكي، وكيف أجبرت على التسليم، ولكن نتيجة القهر والخوف من المجهول، انتقل اليابانيون إلى الحرب ضد الأمريكان، ولكن عبر الاقتصاد والإنتاج الصناعي؛ وذلك عندما وجدت أن طرق الاستقلال صعبة المنال عسكرياً، وهكذا فعلت ألمانيا عندما هزمت في الحرب العالمية الأولى، فقد أعدت للثانية فلما هزمت في الثانية، تحولت لتسلك الطريقة اليابانية فنجحت. إذن؛ كل نجاح يولد من بطن حالة استثنائية، وليس من رحم رفاهية ودعة وهدوء.

فمصر عبدالناصر عندما رأت أن عليها أن تحارب إسرائيل، تحولت إلى التصنيع في كافة المجالات، فصنعت السيارات والحافلات، وصنعت الصواريخ والذخائر، وكان لديها مشروع نووي، وزرعت واكتفت زراعيًّا، وكانت تمتلك مشاريع طموحة في كافة المجالات، وبنتْ السد العالي لحماية مصر من الفيضانات وإنتاج الكهرباء، ولكن بتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" صدَّق المصريين أنهم في سلام حقيقي، فاختفت الكثير من المصانع، وصارت مصر تستورد القمح، والقطن بعدما كان القطن المصري من أفضل الأنواع في العالم، وصار التجار يتغنون بالمستورد، كفقاعة لها بريق لا يتجاوز جيوب التاجر الجشع، وراح عن البال أنَّ المصنع يمكن أن يتطور، وأن هناك الكثير من المصريين سيعملون في المصانع. إذن؛ أمر محتم أن تنتهي إسرائيل بمجرد تعيش بشعور السلام والاطمئنان؛ لذلك هي تعيش مستفيدة من حالة الحرب التي لا تنتهي، ولكن ربما توازن الرعب الذي تفرضه عليها قوى المقاومة، سيدخلها في هدوء لا يناسبها هي، وقد يودي بها بمرور الزمن.

وإيران مثالٌ حيٌّ على هذه الحال، فقد اتفق الغرب على خَنقها اقتصاديًّا؛ لأنها قرَّرت الخروج عن بيت الطاعة الأمريكي والهيمنة الغربية، فحُوصِرت دوليًّا؛ وذلك لأن أمريكا هي من يُقرر ماذا يفعل العالم، وماذا لا يفعل، وقد خرجت إيران منتصرة بعد أربعين عاماً، فصنَّعت كل شيء، وأبدعت حتى صارت تنافس الغرب في إرسال الأقمار الصناعية إلى الفضاء، وهذا كله نتيجة الخوف "الإيجابي" الذي جعل من إيران دولة منتجة، بدلا من أن تكون دولة مستوردة لكل شيء، وعالة على الغرب، كما هي حال العرب اليوم، وليس اليوم وحسب وإنما الغد كذلك، فليس هناك ما يبشر بغد أفضل؛ لأنك كمتابع لحال العرب، تستطيع أن تجزم بأنَّ العرب إذا تداعوا لتدمير دولة عربية، فلن يتأخَّروا عن ذلك، مهما كلفهم من مال ودماء. وفي المقابل، لن يمدوا يداً لمساعدة أي إنسان عربي، أو مسلم طلب مساعدة لله.

إذن؛ البلد الذي يُنعِم الله عليه بعدوٍّ عاقل، يكون ذلك عليه فألاً حسناً، فسوف يحفِّزه للاعتماد على نفسه، وضربنا مثالاً بإيران، ولتكن دولة قطر كذلك، ليس لأن عدوها عاقلاً، ولكن الغرب تولى تهذيبه ليقبل بالحد الأدنى من الضرر، ولأن موارد قطر تصبُّ في نفس الاتجاه، وإنَّ الكفيل هو الكفيل، أما من يتابع وسائل الإعلام فلن يرى أيَّ سلوك عقلاني في العداوة المعلنة، بل عداوة بفُجور لا مثيل له في العدوات، حتى على أيام الجاهلية بين المسلمين وكفار قريش. وفي المقابل، لم يتدخل هذا الكفيل مع اليمن؛ لأنَّه لم يعد مطمئنا للوضع هناك؛ لذلك وقف مُسَانِداً لأطراف العداوة الذين في جانبه ضد اليمن، إلى أن بعث الله لهم بهدية من السماء، بأن قتل الصحفي خاشقجي في تركيا (ربما) بتخطيط ناقص الأركان، ففك عقدة الحرب على اليمن.

وأخيراً.. ندعو الله أن لا يُفْجر أعداءنا في عداوتنا، كما هي حال غيرنا من الدول، وألا يتربَّص بنا عدونا الدوائر على كل طريق وساقية، وألا يجند ضدنا الجواسيس من الفنادق، فإننا نعلم كنه فساد أساليبه وخبث ضميره، ونستجيرك يا الله بدعاء رسولك لأهل عُمان لقوله:"(اللهم لا تسلط عدوا عليهم من غيرهم"؛ فالعداوة لا تأتي من الأهل على الأهل؛ وإنما انتفاء العداوة بين الأهل، هذا ما أوضحه لي أحد العلماء التُّقاة، ومن جانبنا فعُمان لا تحمل أحقاداً ولا ضغائِن على أحد، وإن حكمة وحنكة قائدها السلطان قابوس المعظم -حفظه الله وأبقاه- يغمر فيضها الكون كله، ويشهد على ذلك العالم في كل أرجاء الدنيا.