د. صالح الفهدي
إن صناعة الرؤية المستقبلية هي أشبهُ بالحكمة التي قالها الفرنسي أنتونيو دي سانت (1900-1944): إذا أردت أن تبني سفينة فلا تقرع الطبول للرجال كي تكلفهم بجمع الحطب، ولكن بدلاً من ذلك إِلْهم أخيلتهم بالبحر الواسع الذي ليس له حدود"، لكن السفينة لا يُمكن لها أن تقلع دون ضمان الكفاءات المؤهَّلة للرحلة الطويلة الحافلة بالصعوبات، والتَّحديات؛ الكفاءات القادرة على القيادةِ في بحرٍ مضطربِ الأمواج هي الضامنة لسيرِ السفينة نحو مقاصدها المتوخَّاة.
المُراهنةِ الحقيقية في هذا العصرِ معقودةٌ على رأس المال البشري، والأُمم الغنيَّةِ هي الغنية بما لديها من كفاءات بشرية عالية القدرات، واسعةُ الإطلاع، أولئك الذي يدركون أبعاد القرارات التي يتخذونها على المستقبل وفقاً لما يقوله بيتر دراكر "لا يتعامل التخطيط طويل المدى مع القرارات المستقبلية، بل مع مستقبل القرارات الحالية".
ولم يكن لأيَّة أُمةٍ حققت المنجزات، وتصدَّرت الحضارات من حظٍّ وفيرٍ في تاريخها، إلا بقدراتها البشرية الكفوءة، فعُمانُ مضربُ مثلٍ في تاريخها المديدِ الذي سطَّرَ أمجادهُ رجالٌ بواسلَ في بقاعٍ مختلفةٍ من الأرضِ، يدفعهم العزمُ، ويحرِّكهم الشغفُ، لصنعِ مجدٍ مكين، ولقد كانت تلك القيم وراءَ النهضةِ الحديثةِ لعمان العصرية، حين أوضحَ قائدها جلالة السلطان قابوس –حفظه الله ورعاه- بقوله في العيد الوطني العاشر عام 1980: "كنا فقراء في كل شيء، لكن كنا أقوياء في أصالتنا وعقيدتنا وفي عزمنا وإصرارنا على النجاح رغم كل العراقيل والعقبات التي كانت تعترضنا".
على أنَّ الكفاءات التي تزخرُ بها الأوطانَ لا يمكنها أن تقدِّمَ ما ترنو إليه من منجزات، ولا أن تصل إلى ما تنظرُ إليه من طموحات إن لم تمكَّنَ بما في كلمة "التمكينِ" من معاني أصيلة، إذ إنَّها ليست مجرَّد كلمة خاوية ترجمة عن الكلمة الإنجليزية "Empowerment" يتلفَّظها مسؤولٌ بنوعٍ من التباهي..!
التمكين هو إتاحة المجال فسيحاً للقوى البشرية التي تمتلك الكفاءات، والإخلاص الوطني، والأمانة، والصدق للقيام بدورها نحو وضعِ الرؤية المستقبلية، ثم إدارتها، ومتابعتها، وتقويم الخلل فيها، وتعديل مساراتها.
التمكينُ هو أن تتولَّى القدرات البشرية التي تمتلك الرؤى الطموحةِ، والأفكارِ الخلاَّقة، قيادة الرؤية المستقبلية، إذ لا يُمكن لأيَّة رؤية مستقبلية أن تُبنى بغير الإنسان ولا يمكن أن يكون هذا الإنسان صالحاً بغيرِ الفكر المتميِّز، والمعرفةِ المتجدِّدةِ، والقيمِ الأصيلة، والعزائم الأكيدة.
المراهنة معقودةٌ على الإنسان، وليس أيَّ إنسان من شأنهِ أن يملأَ الفراغ في الكراسي، فتلك الكراسي إنَّما هي الوطن بكل مقدِّراتهِ، ومنجزاته، وآمالهِ، وطموحاته، وهي مصانعُ تنميته، وتاريخه وثقافته ومستقبله.
المراهنةُ معقودةٌ على الكفاءات الحاذقة، العاقلة، الرشيدة، الأمينة الذين لا ينظرون لغيرِ الوطن، ولا يبصرون غيرِ مصالحَ شعوبهم، ولا يقرِّرون إلاَّ فيما يحفظُ موارَد أوطانهم، ولا يخطون إلاَّ في طريقٍ يكفلُ تحقيق المطامحِ لأمَّتهم.
وكما تُنقَّى الدُّرر الأصيلة، تنقى الكفاءات القديرة، التي تصنعُ المستقبل للوطن، وتحفظُ له عزَّته، وأمنه، وترعى مصالحه، وتصون موارده، فالعقول الإنسانية المبدعة، والقلوب المخلصة الأمينة هي التي صنعت حضارات.
الكفاءات اللبيبة، الأريبة إن هي مُكنت حقَّ التَّمكينِ كان من آثارها الرخاءُ على الأمَّةِ، والازدهار على التنمية، والنماءُ على الاقتصاد، والهناء على المجتمع.
لا رؤية بدون تمكين ولا تمكين بدون إنسانٍ خلاَّقٍ، مبدعٍ، مخلصٍ، وأمين.