يا بدع الورد .. يا جمال الورد

 

 

عائشة بنت أحمد البلوشية

 

دلف مسرعًا من الباب قبل أن يخرج بنفس السرعة ليُؤدي فريضة الظهر في المسجد، وضع كفه على أنفي وسألني هل لا زالت هذه الرائحة تعني لك شيئاً، أغمضت عيني، لأسبح عبر دوائر الزمان وأصل إلى الطفولة، قال لي إنه عطر (ريف دور)، ظللت واقفة في مكاني، أستجمع تلك المشاعر الجميلة التي اعترتني وأعادت لي عبق تلك الرائحة الباريسية الزكية، رائحة هي مزيج بين البراءة والطبيعة البكر، فتذكرت شكل القنينة التي كانت تصر أغلب الجدات والأمهات على اقتنائها لتكون ضمن مُقتنياتها الخاصة في المندوس أو السحارة، إلى جانب حق الكحل والمرود الفضة، وكان أي مسافر إلى بلاد الغربة للعمل وكسب الرزق يحمل معه عدة وصايا سرية بجلب عطر "ريف دور" عند عودته المُقبلة؛ أخذتني يا والدي الغالي -رزقني الله حسن برك وصحبتك- بذلك الأثير السحري عبر ذبذبات الوقت إلى خلطة الورس والزعفران الممزوجة بماء ورد الجبل في تلك السكرجة الخزف الصغيرة، ورائحته تملأ الأجواء بعبق تلك الخيوط الحمراء المطحونة والمتحدة مع المحلب، الذي تضعه النسوة على جباههن وأصداغهن، وللبنات الصغيرات نصيب من ذلك، فانسحبت تدريجياً بذاكرتي لأتذكر وصول الماشطة في زيارتها الأسبوعية، لتتفنن بوضع لمسات الجمال في عكفة الشعر المضفورة بمسحوق الياس (الآس) الرائعة، وتبقى لمسة علطة الياسمين (الياسمين الملضوم على شكل دائرة قد تضيق وقد تتسع، تحكمه وفرة كمية ياسمين "أبو وريقه" أو "المرضفاني" بحسب مواسمه) التي تشبك في المنثورة (قلادة قصيرة) إلى جانب العنق، وتقابله في الجانب الآخر من المنثورة علطة الورد العماني زكي الرائحة، وتأتي رشة ريف دور السحرية، لتكتمل زينة المرأة المضمخة من رأسها إلى أخمص قدميها بالطبيعة وورودها وزهورها، ما هذا الرابط العجيب الذي يسحبنا من خلال رائحة معينة إلى موقف ما أو زمان ما، كنت أراقب جدتي أطال الله في عمرها عندما تقوم بسحق المحلب والزعفران (الزين) لإعداده لطقوس قهوة الضحى، في سجرجة الصين، وتقوم بتوزيعها بين الجارات في تلك الجلسة، لتخط كل واحدة تلك الخطوط البرتقالية، التي لا تشبه شعوب المايا في شيء إلا في بعض الألوان، ولكن الرائحة فعالم ساحر آخر، ثم تدوير المبخر بـ"فقوش" البخور المعد منزليًا، وطبعًا توجد إحدى الجارات تستلم مهمة لضم حبات الياسمين وأخرى مخصصة لبتلات الورد، ويتم تقسيم العلط بين الجميع، حتى نحن صغيرات الجلسة لنا من موكب الروائح نصيب، وما أحلى مواسم البل (زهور النارنج)، ولمن يستغرب أين نحن عن المدرسة، أجيب بأن مدرستنا كانت مسائية، لذلك كنا نستلذ بهذه الجلسات الزكية، أكثر من جلسات قطف بذور ألقت التي كنَّا نمقتها جدًا، واليوم أستعيد كل هذه الذكريات وكيف كان المجتمع أكثر تلاحمًا وتعاوناً، حتى وإن كان هنالك من ينتقد قهوة الضحى، فقد كانت الكثير من المهام تنجز خلال تلك الجلسات السريعة كفرز السح (التمر) في مواسم الجداد، أو سحل بسر المبسلي، أو تقطيف بذر ألقت، أو فرز اللومي، أو تجهيز السفرجل والبالنج لدفنه، وغيرها من الأمور الكثيرة جداً لكل موسمه، وليس لمجرد الأحاديث الجوفاء والنميمة.

أبدعت الأميرة أسمهان الأطرش أيما إبداع عندما شدت بكلمات "حلمي الحكيم" وألحان أخيها الأمير "فريد الأطرش" في فيلم انتصار الشباب 1941م برائعتها: "يابدع الورد يا جمال الورد، من سحر الوصف قالو عالخد، الورد الورد يا جماله"، فعددت ألوانه الأحمر والأصفر والأبيض ومعاني تلك الألوان، بصوتها ذي الطبقة النادرة والذي إن لم يخب ظني من طبقة (الألط العريض)، ورغم وصفها لذلك الجمال البديع إلا أنها لم تنس أن تحذر زارعه من شوكه: "الورد الورد.. يا جماله، نـدّي وردك يا خولي، اوعى يجرحك شوكه، واسهر عليه"، لترسل لنا برسالة أن كل شيء في هذه الحياة إذا ما تمَّ نقصان، وأن الكمال لله عز وجل، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نستمتع بجماليات كل نعمة حولنا، وان لا ننسى أن نحرك ألسنتنا بالحمد والشكر والمحافظة على تلك النعم، وكنت ولازلت كلما استمعت لذلك الصوت الندي يشدوا ببدع الورد أحس بأنَّ جمال الزمان لا ينتهي، قد يتطور ويتغير لكنه لا ينضب إذا ما استمرت أرواحنا في البحث بعين الجمال.

 

لن أتحدث هنا عن أقوال العلماء ونصوصهم النظرية حول ارتباط الرائحة بحدث معين في حياة كل منِّا، ولكني سأستشهد بتاجر عطور في مومباي عندما قال لي ذات زيارة، إنني عندما أحس بأي نوع من الطاقات السلبية قد بدأ بلف خيوط سلبيته حولي، فعلي بإشعال البخور طيب الرائحة كاللبان الحوجري أو العود، أو مجرد نشر رائحة خفيفة ندية مفرحة قريبة من القلب لاستجلب بها الطاقة الإيجابية، لأنني حتماً سأكره تلك الرائحة التي ترتبط بحدث سلبي، وسوف أتذكره كلما شممتها، لذا لا تستغرب أيها القارئ أن لديك في قائمتك روائح حزينة، وأخرى مبهجة، وغيرها تبعث على النشاط، ومنها ما يعطيك إحساسا بالتفاؤل... وغيرها.

وتظل الجملة (الورد الورد .. يا جماله) تعبر عن مدى سعادتنا عندما ننظر إلى الزهور على جوانب شوارع العامرة مسقط، أو حتى في واجهات عرض الورود في محلاتها، وها هي رائحة من عطر ظننت أنه طوي مثلما انطوى غيره من العطور، "ريف دور" حرك مشاعري، ليأخذني إلى الانتشاء برائحة الضواحي وقت القيظ بعد سقي البيادير لها بمياه الفلج، حيث تتشابك روائح الخلال والأمبا والبل (زهور الحمضيات) بأنواعه مع ثرى تربة بلادي، كم هو محروم هذا الجيل من هذه النعم، فقد سحبتهم التكنولوجيا إلى العوالم الافتراضية، وسرقت منهم جمال الاستمتاع بالطبيعة، ولكن الوقت لم يفت، فكما يقال "أن تأتي متأخرًا أفضل من ألا تأتي أبدًا"، لأنَّ زراعة نخلة أو شجرة في منزلك وتجعل ابنك يعتني بها، سوف تجعله متعلقا بها ولو كان بالنزر البسيط.

 

______________________________

 

توقيع:

"العطر لغةٌ لها مفرداتها، وحروفها، وأبجديتها، ككل

اللغات.

والعطور أصنافٌ وأمزجة.

منها ما هو تمتمة ..

ومنها ما هو صلاة ..

ومنها ما هو غزوةٌ بربرية ...

وللعطر المتحضر روعته ..

كما للعطر المتوحش روعته أيضاً ..

وهذا بالطبع يتوقف على الحالة النفسية التي نكون فيها..."

قصيدة عطر، نزار قباني.