خمول الذهن العربي (1- 2)

عبيدلي العبيدلي

 

في جلسة جمعتني مع صديق نهم للقراءة، ويحرص على مُتابعة ما يستجد من كتابات في ميدان عمله، جرنا النقاش نحو ما يُمكن أن نطلق عليه "خمول الفكر العربي"، وفشل هذا الفكر الخامل في اكتساب القدرة على الارتقاء بأداء الذهن العربي، كي تنتشله من حالة "التلقي المُستكين الخاضع" لما يقذف به المُجتمع العربي من مفاهيم وقيم يجترها العقل العربي ويلوكها دون أن يكون قادراً على إعادة خلقها من جديد من خلال عملية تفكير ديناميكية، تفاعلية، مُبدعة، تولد قيمة مضافة لما تلقاه ذلك العقل الخانع.

أضاف ذلك الصديق، كي لا أصادر بشكل غير أمين ملكيته الفكرية، وفي نبرة تكمن في ثناياها دعوة مبطنة للتمرد على هذا الواقع، أنَّ هناك عوامل كثيرة تقف وراء هذا التقاعس الذهني العربي يُمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:

القيود التي يكبل بها الموروث التاريخي ذلك الذهن العربي، فيصبح هذا الأخير أسيرًا له، وينعكس ذلك على سلوك، ومن ثم أداء التفكير العربي في علاقته مع ذلك الموروث الثقافي. ورغم أنَّ محاولة سيطرة الموروث على الحاضر، وإصراره على رسم معالم المستقبل ليس ظاهرة عربية فحسب، فهي ظاهرة عالمية، لكن بعض الآخرين نجحوا في كسر أغلال ذلك الموروث، ونضوا عن أجسادهم أرديته التي أكل عليها الزمان وشرب، واستبدلوها، من خلال معارك ضارية لحركة تمرد واعية بأخرى حديثة قادرة على مد أذهان أولئك الآخرين، ممن عاشوا حالة التمرد تلك، بالقدرة على التَّحول من حالة "التلقي الإستاتيكي"، إلى مستوى "الخلق الديناميكي التفاعلي الإيجابي". وشدَّد الصديق هنا على ضرورة التمسك، في عملية التحول هذه، بمقاييس الرفض الواعي البناء من ذلك العفوي الهدام.

التباهي المُغرق في نرجسيته، الذي يطوق نفسه، في حالات معينة، بإنجازات الماضي، والتي لا تخلو من عناصر المبالغة، والوقوع الطبيعي في مستنقعات ذلك التباهي التي تسيج الذهن العربي بطبقة سميكة من "الأنا" المزيفة التي تحجب عنه إنجازات الآخرين، وتُحيط الذات ببيئة مخادعة تزرع نزعة تفوق مغشوشة، تغرس بذرة الخمول التي تدفع العقل العربي نحو الاستمتاع والانتشاء بأمجاد، ليس هنا مجال تقويمها ومقارنتها مع إنجازات أمم أخرى، بقدر ما كان القصد من وراء الإشارة لها هو قدرتها على نشر الجرثومة التي ولدت حالة خمول الذهن العربي التي تحدث عنها ذلك الصديق، الذي نوه هنا إلى ضرورة تحاشي ردة الفعل السلبية من ذلك التاريخ، والإمعان في "تسفيهه"، التي بدورها تؤدي، في نهاية الأمر، إلى النتيجة ذاتها، وهي حالة الخمول الذهني التي نتحدث عنها.

الأصفاد التي تفرزها حالة "التخلف" العربي الراهنة، والتي تفرز حالة مستمرة من الشعور المُتواصل بالدونية، المقزمة لكل ما هو منتج فكري عربي، مع مقارنات غير منصفة مع مجتمعات أخرى، خطورة مثل تلك المقارنات حالة "الإحباط" العميق التي تنغرس بشكل غير واعٍ في تفكير الفرد العربي، وتنجح بما تملكه من قدرة انتشار فيروسي في الانتقال من الحالة الفردية إلى دائرة أخرى أكثر اتساعًا وشمولية وهي السلوك الجمعي، الذي يتنامى، خاضعًا لقوانين معادلة أسية كي يصبح ظاهرة ثقافية شاملة تبني جدارًا عاليا وسميكا يُحيط بالذهن العربي ويفرض عليه حالة الخمول التي تحدث عنها ذلك الصديق. وعلينا هنا، كما يقول ذلك الصديق، التمييز بين مظاهر التخلف السطحية، والتي لا تعدو أن تكون في جوهرها نتائج مباشرة لذلك الخمول، الخلف هنا وتلك العميقة التي تفرز عناصر ذلك الخمول. هنا تبرز أهمية الاعتدال الذهني الرشيق، غير الخامل الذي يحقق التوازن، ويحول دون التطرف نحو أي من الاتجاهين.

وإذا انتقلنا من الماضي، الذي ما نزال لا نمتلك مفاتيح التخلص من أغلاله، إلى الحاضر الذي تحاصرنا  فيه عوامل تغذية ذلك الخمول، فستبرز أمامنا صورة عملاق، لكنه عملاق مصنوع من صلصال، لمنظومة التعليم العربي التي ما تزال تعاني من تخلف بنيوي، غير قادر على التمرد، ومن ثم الخروج من شرنقة النظام البيئي (EcoSystem) البالي الذي يسيج العملية التعليمية، ويأسرها وبشل حركة تقدمها، كي تساعدنا على التمرد على ذلك الموروث، وكسر قيوده. ويلفت الصديق هنا إلى ضرورة تخطي حواجز أوهام التفوق المزيف في بناء النظام البيئي التعليمي، الذي يتباهى بالشكل، وتغيب عنه عناصر الجوهر.

ويكمل الصديق هنا مشواره الذي بدأ السير على طريق تشخيص العوامل التي تفرز هرمون "خمول" الذهن العربي وتغذيها كي تضمن ليس استمرارها في الحياة فحسب، بل تكفل نموها وعمق تأثيرها على حد سواء. فيتوقف عند ظاهرة الدونية المتنامية إزاء ما يحققه الآخرون من إنجازات وعلى أكثر من مستوى، ليست تلك الإنجازات في ميادين تقنية المعلومات والاتصالات سوى المثال الأكثر وضوحاً بينها. وتتراوح ردة الفعل المنطلقة من هذه السيطرة الدونية على الذهن العربي التي تفرز هرمونات خموله، من الانبهار الشديد غير المبرر بتلك الإنجازات، مرورا بحالة الإعجاب المتنامي وغير المتوازن، انتهاء بحالة التقدير الممعن في الثناء غير الموضوعي. محصلة ذلك جلد متواصل للذات، يكسر الهمم، ويحبط المحاولات، ويولد حالة الخمول التي تسير آليات الذهن العربي، وتحجب عنه ما يحتاجه من عناصر الإلهام التي تمده بطاقة كسر أغلال الخمول قبل ولوج مرحلة الإبداع.

النقل الخامل، غير المبدع لتجارب الآخرين الناجحة، القائم على النسخ المشوه لتجارب ناجحة تمكنت من خلالها شعوب وأمم أخرى من مُعالجة ذلك الخمول الذهني في مراحل مبكرة من ظهور أعراضه. فيأتي ذلك النقل المسخ حاملا فيروسات مهاجمة العقل العربي، وشله قبل زرع جرثومة "الخمول" في أنوية خلاياه العصبية. هذا الغرس الطوعي يشوه الذهن العربي بطاقته السلبية الكامنة التي تشكل البيئة المناسبة للإصابة بفيروسات الخمول الذهني، التي تبدأ بحالة عرضية، ثم تنتهي إلى مرحلة متوطنة، قبل أن تتطور كي تصبح عاهة مشوهة (بكسر الواو).