"شتي" يا سماء سلطنتي

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

يخلق الموقع الفلكي والتباين الجغرافي لسلطنتي الحبيبة تفرُّدا جميلا في مناخها، الممتد من محافظة مسندم شمالا وحتى محافظة ظفار جنوبا، ومن رأس الحد شرقا وحتى منفذ رملة خيلة غربًا؛ لذلك عندما يأتي تأريخ الحادي والعشرين من ديسمبر من كلِّ عام، ينتشرُ رونق الشتاء العجيب على أرض سلطنتي الجميلة، فيخلع عدة أردية مختلفة على كل محافظة، ويجعل لها خصوصيتها الرائعة، وما أروع صوت فيروز حين كنت أسمعها في الإذاعة وهي تشدو بكلمات وألحان الأخوين رحباني: "شتي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلى.. وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلى"، تغنِّي فيروز للشتاء، وبلهجتهم اللبنانية الرشيقة فإن الدنيا عندما "تشتي"، فإنهم يقصدون الغيث أو الثلج المتساقط ببياضه الجميل، أما في سلطنتي الغالية الواقعة على مدار السرطان فإنَّ للشتاء معاني كثيرة، ما بين البرد والقر والجليد والثلج! هذا التناغم المتدرِّج يخلق لسلطنتي تفردا عجيبا على وجه البسيطة، ولن أبالغ إذا قلت بأنه يمكن اعتباره قيمة طبيعية تنافسية مستدامة.

فتحتُ عينيَّ في بلدة العراقي في شهر أكتوبر، وترعرتُ في ربوع "أرض السر"، ما بين حِصن العينين وحصن العراقي حيث أمي وأخوالي، وبين بيت الجص والبيت العود والضواحي الظليلة عند جدي ذي الوجه الصبوح الفارس المغوار -رحمه الله- وجدتي الغالية ذات الشخصية الفولاذية -أطال الله في عمرها- فعشت المعنى الحرفي للشتاء القارس في ولاية عبري لقربها من صحراء الربع الخالي؛ حيث تتغيَّر الأمور مع دخول الفصل؛ فتثقل الثياب لتصبح طبقات، وتتغير أغطية النوم من الشاذر الخفيف إلى "الجوذري" الثقيل لضمان الدفء، ويمنع علينا النوم فوق "المنامة"، ويصبح النوم في داخل المنزل أكثر سلامة، وتبدأ الجدات بالتحذير من برد الشتاء (في أوليه اتقاه وتاليه تسقاه)، أي تجنب التعرض لبرد الشتاء في بدايته، أما في آخر الفصل فاستمتع به، ويبدأ الجميع في حساب الرياح من العشر وحتى المئة؛ حيث يشتد البرد مع ارتفاع الرقم، وتبدأ الأسر في إشعال (الكوار) في كل منزل ليلا، وهو عبارة عن صندوق حديدي مملوء بالجمر يوضع في منتصف الجلسة لنشر الدفء، كما أن "الصريدان" يظل مستيقظا ليلا ونهارا، في حال رغب أصحاب المنزل في (غوري/ إبريق) حليب البوش/ النوق بالزعتر للدفء، أو بعض القهوة الحاضرة دوما، أو شاي الحليب بالزنجبيل، أما أروع وألذ ما أحبه في شتاء عبري -والذي يصفه الكثير بأنه "يقص المسمار- هو تلك الأطباق اللذيذة، التي كانت تعدها جدتي الغالية -أطال الله في عمرها- وأغلب النسوة، فالشوب والعسل لا يمكن أن يقاومه المرء أمام لسعات البرد الشرسة، وممروسة التمر المحموسة بالسمن العماني والمزينة بالهيل والقليل من الفلفل الأسود، أمرٌ لا يمكن للمرء إلا أن يمد يده ويتذوق تلك اللذة منقطعة النظير، ويصبح تبادل أطباق الساقو والخبيصة أمرًا اعتياديًّا بين الجيران؛ ويعد جبل السراة في محافظة الظاهرة هو أشد المناطق برودة فيها؛ حيث تتجمد المياه في الأحواض، وداخل الأنابيب المخصصة لنقل المياه، ويكسو الجليد المسطحات المائية في قرى الجبل، وكم شهدنا منظر طبقات الجليد تعلو أسطح مياه اللجل/الحوض ونحن في طريقنا إلى المدرسة في الصباح الباكر، وعلى النقيض رأينا البخار المتصاعد من المياه الساخنة المتدفقة في سواقي الأفلاج صباحا ومساء.

ما أشد روعة ندف الثلج وهي تتساقط ببياضها الساحر في قمة جبل شمس في أواخر شهر يناير، والتي لولا أني شهدتها بأم عيني في العام 2007م لن أصدق أن هذا حقيقة في سلطنتي، قمة جبل شمس هي أعلى قمة في الجزيرة العربية؛ حيث يبلغ ارتفاعها 3009 أمتار فوق سطح البحر، كما أن أبرز التكوينات الجيولوجية في ذلك الجبل هي الفالق العظيم الذي يعد ثاني أكبر فالق في العالم، وتنتشر الأشجار الجبلية الجميلة، والأعشاب العطرية والطبية بكثرة، ويا لجمال الانتشاء برائحة أشجار العلعلان وعشبة الجعداء والسعتر في الجبل الأخضر، وبرودة الشتاء تنقلك إلى أجواء أوروبية خيالية، وتعتبر قرية سيق هي أقل القرى التي تسجل درجات حرارة إلى ما دُون الصفر في فصل الشتاء؛ لذلك تزدهر السياحة الداخلية لهذه المناطق للاستمتاع بأجواء شتوية مُلهِمَة.

سلطنتي الساحرة، وما أدراكم ما هي سلطنة عُمان، بلاد مصاهر النحاس، منذ عصور بدايات الإنسان على كوكب الأرض، وبلاد أجود أنواع اللبان في العالم، من يرى نخيلها السامقات شموخا، لن يصدق أن ألذ أنواع المشمش والبرقوق والخوخ، تُزهر وتُثمر على مدرجات جبالها، سوف يرجع إلى محركات البحث العالمية ليتأكد أن لذة جوز ولوز الجبل الأخضر وزيتونه لا تضاهيها لذة، وأن شجرة البوت ذات الثمار طيبة المذاق لا توجد لها أخوات في العالم إلا في جبال أفغانستان فقط، كل وقت تقرر سيدي القارئ أن تصبح ضيفا على مجان أو مزون أو عُمان يعتبر الوقت الأنسب، لكنك إذا كنت من محبي الأجواء الربيعية التي تميل إلى البرودة، فإنَّ أفضل وقت لزيارة السلطنة هو ما بين شهر سبتمبر إلى شهر مارس، حيث تنخفض درجات الحرارة في جميع محافظات السلطنة؛ لأن المحافظات الساحلية تصبح ذات رونق مناخي رائق، خاصة لأولئك الذين يعشقون ارتياد الأمواج والأنشطة البحرية؛ فلو يمَّمت وجهتك إلى صحار الخير بشواطئها الجميلة وحدائقها الغناء، وسفوح الجبال المطلة عليها، أو قصدت مسندم الرائعة بمياهها الفيروزية، ومنتجعاتها الراقية، وجبالها الشماء، ولربما وددت أن ترتحل نحول صور العفية، لتتنسم بأنسام العافية الطيبة، ستتعرف على أجمل شتاءات حياتك على الإطلاق.

تغنَّى الكثير من الشعراء والمغنين بالشتاء وجماله، وما يبثه من مشاعر شجن وحُزن، لكنهم لم يجربوا شتاء سلطنتي الجميلة، عندما ينتشر الجمال ليغلف كل شيء، ويبسط الفرح أجنحته على كل زاوية من زواياها، فاللهم أَدِم علينا النعم واحفظها من الزوال، وكان صحابة رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آل بيته الأطهار وصحبه الأبرار- يُحبون الشتاء، وكانوا يستبشرون بدخوله ويقولون أقبل الشتاء ربيع المؤمنين وجنة العابدين، ليله قيام ونهاره صيام، فإليكم به واستقبلوه بحفاوة وإكرام، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: ألا أدلكم على الغنيمة الباردة، قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء، قال عمر رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين"، وقال ابن مسعود: "مرحباً بالشتاء، تتنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام"، فهل مِثل هذا فصل كله فضل وعبادة، وإن اقتصرت على التأمل في جمال عطايا الرحمن الرحيم، بالخروج والتنزُّه في ملكوت الله، والشكر كل الشكر لأولئك الذين يحرصون على صيانة كل مكان يردونه ثم يرحلون عنه كما وفدوه؛ تعبيرا منهم بالحمد والشكر لمن أنعم علينا بهذه الأرض الطيبة، ولنرفع أيدينا تضرعا إلى المولى بأن "تشتي سماء سلطنتي" بالمعنى الذي يقصده أشقاؤنا اللبنانيون.

--------------------

توقيع:

"إذا أتى الشتاء وحركت رياحه ستائري..

أحس يا حبيبتي بحاجة إلى البكاء على ذراعيك..

على دفاتري..

وانقطعت عندلة العنادل..

وأصبحت كل العصافير بلا منازل..

يبتدئ النزيف في قلبي..

وفي أناملي..

كأنما الأمطار في السماء..

تهطل يا صديقتي في داخلي.."

((نزار قباني))