عبيدلي العبيدلي
ثلاث قضايا مركزية تشغل بال المواطن الخليجي، تتقدمه في هذا الاهتمام القوى السياسية، التي يفترض أن تُعبّر عن همومه، وتشاركه مواجهة تحديات الحياة التي تعترض طريقة. الأولى والأكثر حضورا هي ما يطلق عليه "ضريبة القيمة المضافة". الثانية هي نتائج الحروب العربية الطاحنة، أو تداعياتها، التي تجاوز عمر البعض منها، مثل لبنان عدة عقود من الزمان، أمّا الثالثة فهي نتائج مباريات كأس أسيا للعام 2019.
وإذا استثنينا الثالثة كونها لا تدخل في قائمة "الهموم السياسية"، فبوسعنا التركيز على القضيتين الأوليين، والتي يتداخل فيهما المال مع السياسة.
فعلى صعيد الأولى، والتي تعرفها المصادر ذات العالقة بأنّها "ضربية مركبة تفرض على فارق سعر التكلفة وسعر المبيع للسلع، فهي ضريبة تفرض على تكلفة الإنتاج، ويمكن القول الضريبة على القيمة المضافة هي ضريبة غير مباشرة ظهرت للمرة الأولى سنة 1954 في فرنسا بفضل الأستاذ موريس لوريه الذي وضع قواعدها الرئيسية سنة 1953، فكان معدل الضريبة العادي 20% مع زيادات لغاية 23% و 25% كما كانت تتضمن معدلات منخفضة بحدود 6 و10%. (ومن هنا) تعرف القيمة المضافة في كل مرحلة من مراحل الدورة الاقتصادية بأنّها الفرق بين قيمة السلع المنتجة وقيمة المواد التي أدخلت في إنتاجها وهو ما يعرف بالاستهلاك الوسيط في عملية الإنتاج: القيمة المضافة - قيمة الإنتاج - الاستهلاك الوسيط".
المواطن هنا، وتحديدا ذلك الذي تربطه صلة أو أخرى بالإنتاج، يعاني من إرباك شديد مصدره عدم وضوح الرؤية عنده، كي يضع خطا فاصلا بين ما يستحق أن يضيفه على فواتيره التي يصدرها، تلك النسبة الضريبية أم لا، وفي حالة نعم ففي أية مرحلة من مراحل إنتاج البضاعة التي ينتجها ينبغي إضافة تلك النسبة التي تستحقها تلك الضريبة.
في البدء لا بد من الإشارة إلى أن عمر الضريبة المضافة، على المستوى العالمي، كما تقول المصادر لا تتجاوز 70 عاما، مقارنة مع ضرائب أخرى تجاوز عمرها عدة قرون. وأنّ بدايتها انطلقت على المنتجات أكثر من الخدمات، التي باتت اليوم –الخدمات - تحتل نسبة عالية من مقومات الاقتصادات الحديثة، بما فيها اقتصادات الدول الخليجية التي طبقت، أو على أبواب تطبيق الضريبة المضافة.
ما يثير الحيرة، ومن ثم التساؤل، وهو تساؤل مشروع، في ذهن المواطن الخليجي، أكثر من أي شيء آخر، هو مصير الأموال التي ستجبى، وكيف سيتم إنفاقها، وما هي نسبة مشاركته في قرارات سياسة ذلك الإنفاق؟ ما يحتاجه هذا المواطن اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو مستوى مقبول من الشفافية، تريحه، بعد أن يكون على علم بمسالك حركة تلك الضريبة، وربما ضرائب أخرى غيرها تتربص به. لم يتجاوز الأمر عند هذا المواطن درجة الامتعاض، وليس الاحتجاج، فما يشغل باله اليوم هو تلك التساؤلات الملحة التي تسرق منه راحة البال، وتوقظ لديه الكثير من القلق، الذي يبذل قصار جهده كي يضعه جانبا، كي يتسنى له الاستمتاع بمباهج الحياة.
القضية الثانية هي تلك الحروب الداخلية العربية التي أصبحت جزءا ثابتا من المشهد السياسي العربي، والتي تعود جذورها الأكثر حداثة إلى تلك التي اندلعت في لبنان في العام 1975. هذه الحروب، تحوّلت إلى ما يشبه السلوك العبثي الذي فقد مبرر استمراره، وأصبح محركه الأساسي، ما يطلق عليه في علم الطبيعة قوانين القصور الذاتي (laws of moment of inertia)، لكنها في الحالة السياسية العربية لا تملك القدرة على وقف حركتها، ولذلك نجدها مستمرة، بشكل يقترب من السرمدية أو الخلود.
ما يقض مضاجع المواطن الخليجي، كونه أصبح مكونا رئيسا من مكوناتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، ضحية مباشرة من ضحاياها، بعد أن باتت تستنزف قواه الاقتصادية، وموارده البشرية. والتساؤل التي تثيره تلك الحروب هو: ما هو جدوى اشتعالها، وما مبررات استمرارها، من زاوية عربية محضة؟
ما يخشاه ذلك مواطن الخليجي هو تكرار صورة حديثة للحرب العربية المشهورة في التاريخ العربي القديم، التي دامت 40 سنة وعرفت بــ "حرب داحس والغبراء". والتي بدأت كما تنقل تفاصيلها المصادر العربية "خلال تحدي زعيم قبيلة عبس نظيره في قبيلة ذبيان إلى السباق.. وخلال السباق تولى الغبرا ءللنتيجة إلا أنّ داحس تفوق وكان على وشك الفوز في السباق، إلا أنّ ذبيان قد نصبوا كمينا له، حيث اقتادوا الحصان الرائد بعيدا عن مساره ، ليبدأ الحادث المدبر، وأعلنت عبس النصر، وامتعاضاً من الغدر فقد ذبح عبس شقيق زعيم ذبيان، وفعل ذبيان نفس الفعلة لشقيق زعيم عبس، وأعلن الفارسان الحرب التي استمرت لمدة أربعين عاما".
وحين يتمعّن المواطن الخليجي في أسباب الحروب العربية المعاصرة، بما فيها تلك التي نتحدث عنها، يكتشف بمرارة أنّ أسباب اندلاعها، وفيما بعد استمرارها لا تختلف في الجوهر عن نظيرتها "داحس والغبراء".
خشية المواطن هي أنّ تبعات الحروب الحديثة لا تنحصر في خسائرها المادية المباشرة فحسب، لكنها تتجاوز ذلك كثيرا كي تصل إلى زرع ضغائن عريية داخلية تواصل فرز سلبياتها، حتى بعد أن يتوقف صليل السيوف، وتصمت أصوات المدافع، وتنغرس عميقا في نفوس المواطن العربي ضغائن أحقاد زرعتها تلك الحروب التي سقيت بسموم مياه أجنبية؛ إقليمية تلك السموم كانت أم دولية.
الوصول إلى حلول بشان تلك الهموم، رغم البون الشاسع بين الهموم الضريبية، وتلك العسكرية بحاجة إلى وقفة جادة مع الذات، والنظر بصدق إلى المرآة، كي نعرف أنفسنا على حقيقتها. وما لم يتحقق ذلك بشكل شفاف، سنواصل الخضوع لتلك الضرائب، دون عين رضا، وسوف نستمر في إشعال نيران تلك الحروب، وإذكاء أسبابها، دون أن ندرك أننا نحن العرب، ومن بينهم الخليجيون، هم الخاسر الأكبر في الحالتين. ولا يمكن لن تمتد يد لمساعدة من يرفض أن يساعد نفسه. فالتاريخ يفرض مساعدة من يأبى مساعدة نفسه.