هزائم أمريكا المتتالية

 

علي بن مسعود المعشني

 

◄ هذه القرارات الأمريكية المفاجئة ليست سوى تكتيك لإعادة التموضع وتوزيع الأدوار مع الحلفاء لتمكين مفاصل إستراتيجية جديدة

 

لابُدَّ أنَّ تشغلنا التحركات الأمريكية الأخيرة في المنطقة العربية من انسحابات عسكرية في كلٍّ من سوريا والعراق وأفغانستان، وسماحها ضمنيًّا لحلفائها بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع دمشق، وتوجُّهها لحلحلة الوضع في اليمن، بدءًا من اتفاق ستوكهولم "الإنساني"، والذي يتضمَّن تبادلًا للأسرى بين حكومة الشرعية وحكومة الوفاق بصنعاء، فالجولة الثانية من المفاوضات السرية، والتي رشحت تسريبات عنها بأنَّها جولة نحو اتفاق شامل يرسم ملامح يَمَن ما بعد الأزمة، والذي من المقرر أن يتم التوقيع عليه بصيغته النهائية بصنعاء، وفق مصادر قريبة ومطلعة.

كَمَا لا يُمكن تجاوز توقيت اتصال الروس المفاجئ مع الدكتور سيف الإسلام معمر القذافي، وتبادل الرسائل وزيارات الوفود، تحت عنوان إنهاء الصراع في ليبيا، ورهان الروس على أنَّ سيف الإسلام هو رجل المرحلة والوئام لكل الليبيين، ولن يكون في تقديري هذا الاتصال مبرَّرًا ومتاحًا ما لم تكن هناك توافقات دولية سلمت الملف الليبي لروسيا.

مردُّ أهمية انشغالنا بهذا السيناريو الأمريكي المفاجئ والمباغت، والتحركات المفاجأة، هو كَوننا نحن العرب -كقوم وجغرافيا- المعنيين بالأساس بجهد المعركة والصراع الدولي والمسرح الرئيس لها منذ احتلال فلسطين، وتمكين الكيان الصهيوني منها، والاعتراف به في الأمم المتحدة عام 1949م. الحقيقة أنَّ هناك عدة مؤشرات بأن الأمريكيين لن يفرطوا بالمنطقة، وتحت أي ظرف للروس أو لغيرهم، خاصة منطقة حسَّاسة وملتهبة وصانعة للحاضر والمستقبل كالوطن العربي، رغم الاستقالات في الإدارة الأمريكية، وتصريحات الرئيس ترامب بضرورة الاعتناء بأمريكا والانكفاء على الداخل، فمجرد تهاونهم يَعني تخليهم عن حليفهم الإستراتيجي والمسمَّى بإسرائيل، وتركه ليقرر مصيره وحيدًا، وسط بحرًا من العداء والكراهية، وفي زمن أصبح فيه تيار الممانعة الرقم الصعب في المعادلات السياسية والإستراتيجيات المتوسطة والبعيدة، وهذا ما لن تُقدم عليه إدارة أمريكية بالقطع. يمكن القول بأنَّ هذه القرارات الأمريكية المفاجئة ليست سوى تكتيك لإعادة التموضع وتوزيع الأدوار مع الحلفاء لتمكين مفاصل إستراتيجية جديدة يتمُّ إنضاجها على نار هادئة، ويمكن تسميتها بالإستراتيجية (ب) بعد فشل الإستراتيجية (أ)، والتي كانت تحمل حُلم أمريكا وحلفائها بإسقاط النظام السوري العنيد، وتمكين نظام دُمى يحمي الكيان الصهيوني، ويتخلى عن خيار المقاومة، ويفك ارتباطه مع الجمهورية الإسلامية الايرانية وحزب الله وفصائل المقاومة بغزة، بل ويكون معينًا عليهم في لحظات زمنية مدروسة ومتفق عليها.

يبدُو لي من قراءة ملامح التكتيك الأمريكي الجديد أنَّ الدور القادم سيكون عنوانه وهدفه المواجهة المباشرة مع إيران، وأنَّ هذه الترتيبات والتنفيسات في اليمن وأفغانستان والعراق وليبيا، والهرولة الدبلوماسية نحو دمشق، ما هي إلا مجسات وبالونات اختبار وجوائز ترضية لمن أجهدتهم المواجهات العسكرية وسنوات الاستنفار والترقب، ويتحينون الفرصة لاستراحة محارب قد تطول أو تقصُر.

فبلا شك أنَّنا مُقبلون على جولة ثانية من الصراع في المنطقة عنوانه إيران وأمريكا وحلفائهما، لكنه سيكون فصلًا دمويًّا وعنيفًا للغاية فيما لو قرَّرت أمريكا خوضه لسبب بسيط، وهو أنَّ إيران لن تكون وحيدة في هذه المواجهة بل سينضم معها تيار الممانعة والروس كذلك؛ فليس من المنطق أو المقبول ترك إيران في الساحة وحدها رغم قدراتها العسكرية الهائلة، وهامش خياراتها العسكرية في الثأر والانتقام، وتعدُّد أوراقها السياسية المؤثرة، كما ليس من المعقول أنْ يترك الروس الساحة الايرانية للأمريكان، وهي بمثابة خاصرتهم الأمنية وبوابتهم الجغرافية، والتي يُمكن أن يتسلل منها الغرب للإجهاز عليهم بجيوش الدواعش والإرهابيين ومرتزقة العالم، وتكرار النموذج السوري مُجددًا، خاصة وأنَّ أفغانستان أصبحت اليوم نقطة تجمُّع لهم. يمكن القول بأنَّ خيارات أمريكا وحلفائها شحيحة للغاية في عوائدها وأرباحها، وخطيرة للغاية كذلك في نتائجها وعواقبها، كما أنهم سيخذلون في رِهانهم على الزمن والتوقيت، والذي لم يعد في صالحهم، وسيقاتلون أرضًا تقاتل ضدهم بكل مفرداتها ومكوناتها، ومن يقاتل الأرض محكومٌ عليه بالهزيمة طال الزمن أو قصر، ومن يُقاتل بها ولأجلها فحليفه النصر والمجد طال الزمن أو قصر. كما أننا لابد أن نترقب ولا نستبعد انقلابا مفاجئا للعقلاء في الإدارة الأمريكية في لحظة ما يُطيحون فيها بترامب وطاقمه، ويعيدون النظر في الكثير من القضايا والملفات التي تجاوزها ترامب وطاقمه، وأساؤوا تقديرها.

------------------------

قبل اللقاء: من لا يقرأ التاريخ محكومٌ عليه بإعادة إنتاج عثراته، والأمريكان بطبعهم لا يعترفون بالتاريخ؛ لأنهم ليسوا من أبنائه الشرعيين، كما أنهم لا يفكرون -بل لا يجربون- حتى يفشلوا، كما وصفهم الزعيم البريطاني تشرشل.

وبالشكر تدوم النِّعم...،