مجلس التعاون الخليجي.. عصفور في اليد

 

عبيدلي العبيدلي

 

منذ تأسيسه في 25 مايو 1981 أثار مجلس التعاون الخليجي حركة جدل واسعة في صفوف القوى السياسية العربية التي توزعت نقاشاتها على أربعة محاور رئيسة حددت المسافة التي تبعد كل منها في مدخل معالجته لتلك الظاهرة العربية المتميزة.

المحور الأول كانت منطلقاته مغرقة في تشاؤمها بسبب الانتكاسات التي عرفتها مشروعات الوحدة العربية السابقة، وفي المقدمة منها التجربة المصرية –السورية التي لم يكتب لها النجاح المرجو لها، وتداعت أركانها في فترة قصيرة، بفضل مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، لعلّ الأكثر سلبية فيها كان طبيعة تكوينها، والفترة الزمنية القصيرة التي رافقت تأسيسها، بالإضافة إلى القوى الإقليمية والدولية التي تكالبت عليها. توقع من كان يقف وراء ذلك المحور أن يكون مستقبل هذا المجلس مظلما، وأنّ التجربة لن يقدر لها الاستمرار طويلا قبل أن تتعثر وتلحق بشقيقاتها من التجارب الوحدوية العربية السابقة.

المحور الثاني، لم يخلو موقفه من التشاؤم أيضًا، إذ اعتبر التجربة الخليجية منطلقة، كما وصفها، من رغبات الملوك والحكام، ومن ثم فهي، وفقا لذلك المنطق، لا يمكنها أن تجسد طموحات المواطن الخليجي في النموذج الوحدوي الذي "يحلم" به، وبالتالي فليس من المتوقع أن يُحظى بالدعم والتأييد الشعبيين اللذين يضمنان له الاستمرارية الضرورية، ويحققان له النجاح المطلوب كي يتسنى له السير في الطريق الذي كان مرسوما له في ذهنية من طالبوا المجلس أن يرتكز على "مكونات شعبية" بدلا، حسب منطق هذا المحور، من أن تأتي الانطلاقة من قرارات فوقية يتخذها قادة دول مجلس التعاون.

المحور الثالث، وكان مغرقا في تشاؤمه، وتوقع أن تكون تجربة المجلس، في إطارها التوحيدي، قصيرة، بفضل افتقاده لعناصر القوة التي تؤهله للوقوف في وجه "المؤمرات" التي من المتوقع أن تواجهه، وخاصة من قبل دول مثل إيران التي لا ترغب في أن ترى تجمعًا عربياً على الضفة الغربية من الخليج العربي، مهما افتقد إلى عناصر القوة التي يحتاجها، يبرز للوجود. فهو في حال نجاحه سيشكل سابقة عربية، تهدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وتفقد طهران نسبة من عناصر تفوقها في الساحة التي تعتبرها من مناطق "نفوذها" التي لا تقبل المساس به.

المحور الرابع، وكان حينها يحتل مقعد الأقلية ذات الصوت الخافت التي وجدت في مجلس التعاون فرصة ذهبية لتكريس فكرة إمكانية نجاح فكرة تجربة وحدوية عربية، بغض النظر عمّا تحيط بها من عناصر لا ترقى إلى طموحات البعض، أو لا تتوفر فيها الحدود الدنيا المطلوبة للحديث عن مشروع عربي وحدوي. لكن هذه التجربة، يمكن أن تشكل، فيما لو قدر لها النجاح والاستمرارية، سابقة عربية يمكن أن يحتذى بها لتوليد تجارب وحدوية عربية أخرى، لن تقل، حينها، نجاحا عنها.

ولكي نقرأ تجربة مجلس لتعاون الخليجي بعين نقدية موضوعية غير منفعلة تتمتع بالواقعية، وتقف، كلما يتطلب العمل السياسي، على أرضية حقيقية تتمتع بكل ما يتطلبه العمل السياسي العربي من براغماتية في غاية المرونة، ينبغي أن ترتكز منطلقات تلك العين على المسلمات التالية:

- جاءت تجربة مجلس التعاون الخليجي في أعقاب محاولات وحدوية عربية لم يقدر لها النجاح بفضل عناصر كثيرة ليس هنا مجال سردها، ومن ثم فلم يكن المزاج السياسي الشعبي العربي، في مطلع الثمانينيات، مهيأ لتجربة وحدوية، مهما بلغت من التواضع، في المكونات، أو الضيق في الآفاق. وبالتالي، فإنّ الإعلان عن تأسيس مجلس التعاون، كان يعتبر حينها، نقلة نوعية في تاريخ العمل العربي المشترك.

- كان القرار بغض النظر عن جرأته فوقيا؛ أي لم يأت بناء على استفتاء شعبي، أو مطالبة جماهيرية، وإنما تجسيدًا لرغبات الملوك والحكام، ومن ثمّ فقد كان بحاجة إلى فترة زمنية يستغرقها ذلك القرار كي يؤمن لنفسه مرتكزات الاستقرار أولا، قبل أن يحقق متطلبات النمو والازدهار في مراحل لاحقة. ولذلك كانت تلك المتطلبات تقتضي تحقيق بعض المكاسب، بغض النظر عن "ضآلة" حجمها، كي ترسخ العوامل الإيجابية التي كان المجلس في أمس الحاجة لها كي يخطو خطواته الأولى على طريق النجاح، الذي يضمن له الاستقرار المطلوب، قبل الوصول إلى النجاحات المرجوة منه.

 -أنه، وعلى الرغم من العثرات التي رافقت مسيرته، والمآخذ التي يمكن أن يسردها البعض على تلك المسيرة، يبقى اليوم هو التجربة العربية التنسيقية، كي لا نقول الوحدوية، وهو أمر لا يدعيه المجلس ذاته، التي قدر لها الاستمرار والنجاة، ومن ثمّ وبسبب ذلك لم يعد في الإمكان التراجع عنها، أو التفريط في أي من المكاسب التي حققتها أو انتزعتها.

- أنه، وفي ظل ما تواجهه الدول العربية الكبرى مثل مصر والعراق، بل وحتى سوريا، من تحديات مصدرها نجاح القوى الإقليمية العظمى، بالتعاون مع قوى دولية أخرى، غير العربية، مثل إيران وتركيا، بل وحتى الكيان الصهيوني، في تمزيقها اجتماعيا، وإنهاكها اقتصاديا، وإضعافها عسكريا، يبقى مجلس التعاون، هو الكيان العربي الأكثر تماسكا، والأشد قدرة على الفعل، بغض النظر عن تقويمنا لحجم هذا الفعل.

تأسيسا على تلك المقدمات، وأخذا بعين الاعتبار كل الظروف غير الملائمة التي تعيشها حركة التحرر العربية، في إطارها الشعبي، أو في نطاقها الرسمي، يبقى مجلس التعاون الخليجي، هو المكوّن السياسي العربي الوحيد الذي يمكن أن يُشكِّل النواة، حتى وإن لم تكن بالصلابة المطلوبة، الأكثر قدرة، متى ما توفرت الإرادة، على التصدي لمهمات المرحلة القائمة، بما تتطلبه من قدرات سياسية، ومقومات اقتصادية، وإمكانات عسكرية، تشكل رافعة العبور من المأزق العربي الذي تعاني منه حركة التحرر العربية.

ليس المطلوب هنا وأد أي من تلك الطموحات، ولا التشكيك في النوايا المرافقة لها، لكن كما يقول المثل عصفور في اليد أفضل بكثير من عشرة على الشجرة. ومجلس التعاون الخليجي هو العصفور العربي الوحيد المتوفر اليوم أمام الأيادي العربية، ومن ثمّ فمن الخطأ أن نتركه بطير من بين أيدينا، ويحط على الشجرة التي ربما تكون بعيدة حتى عن أعيننا، دع عنك أن تكون في متناول أيدينا!.