انتفاضة فرنسا والديمقراطية المهترئة

 

علي بن مسعود المعشني

لم يكُن مُفاجئًا لأحد في العالم ما شاهدناه جميعًا من خروج للجماهير في شوارع وأزقة مدينة باريس ضد رفع أسعار المحروقات وزيادة الضرائب، والتي في مُجملها تُثقل كاهل المواطن الفرنسي، ومن ذوي الدخول المحدودة على وجه الدقة، وسبب عدم اكتراثنا بما يحدث للفرنسيين بفرنسا هو إفهامنا بأنَّ التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجية هي من أدبيات ولزوميات وأعراض الديمقراطية بعمومها، والديمقراطية الليبرالية الغربية على وجه الخصوص.

ومع طُول مُدة الاحتجاجات، وارتفاع سقف مطالبها، ووتيرة حدتها، لابد لنا أن نتساءل كشعوب مراقبة للأوضاع والتحولات في أقصى جنوب الكرة الأرضية، ويحق لنا أن نتساءل عن جُملة من الأسباب وفيض من الغموض والضبابية عن ماهية ديمقراطية يُرَاد لنا تطبيقها وتسوَّق لنا كمُنقذ للشعوب وملاذ لها، وترياق من التخلف وتحصين منه. الحقيقة -التي لا يُمكن إنكارها- أنَّ السياسات لا تُرسم ولا تُخطط في الشوارع، وأنَّ دولة المؤسسات والقانون في عُمقها مجسَّات وأدوات استشعار عن بُعد وعن قُرب بكلِّ شؤون الوطن والمواطن، وهنا يبرز السؤال: لماذا فشلت دولة المؤسسات والقانون بفرنسا في ملامسة الواقع واستشعاره؟ ولماذا فشلت في التناغم مع إيقاع الشارع وحقوق المواطن، وعجزت عن حقن تلك الفوضى غير الخلاقة، ومنعها من التدفق في المدن، ثم انتقال عدواها إلى بلدان الجوار؟!

والسؤال الأهم في الانتفاضة بفرنسا: لماذا رفض المتظاهرون جميع التنازلات المقدَّمة من الحكومة، وطالبوا بإدراجها كمواد ثابتة في الدستور الفرنسي؟! الحقيقة الأخرى التي لا يُمكن تجاوزها، وهي من القراءات العميقة لأحداث فرنسا، هي أنَّ الانتفاضة انتفاضة جياع بامتياز، وهو ما يُعيدنا للمربع الأول في الثورة الفرنسية الأولى، والتي قيل لنا بأنها ثورة قِيم!! الأمر الثاني لابد لنا أن نُدرك أن هناك أزمة ثقة حادة من قبل الشعب الفرنسي بحكوماته المتعاقبة، وآليات الديمقراطية، والتي على ما يبدو شاخت وصدأت وتجاوزها الزمن، لهذا لم يبقَ للشعب سوى اللجوء للدستور كطوق نجاة وملاذ أخير حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

لا يُمكن لعاقل أن يستوعب وجود دولة عميقة وديمقراطية عريقة وشغب في الشوارع والطرقات لتحقيق مطالب حيوية ومُلحة، تجاوزًا لكل الأقنية القانونية والدستورية المناط بها التغيير والمراجعة، والتقاضي والإنصاف ومراعاة الحقوق، ولا يُمكن أن نستوعب عجزَ مؤسسات دولة ديمقراطية عن تحقيق القراءة الاستباقية والاستشراف المستقبلي، وأن تُصاب بالعَمَى التام، خاصة دولة كفرنسا يُنسب لها علم استشراف المستقبل. في تقديري الشخصي أنَّ ما حدث بفرنسا، وسينتقل بالتداعي إلى الجوار الأوروبي، هو مظهر من مظاهر إفلاس الديمقراطية الغربية بقِنَاعها الليبرالي المزيف، وأفُول شمس تجربة تلطَّخت بأنهر من الدماء، وعُززت باقتصادات فاحشة من مُقدرات الشعوب المستضعَفة، وفوق هذا تفشي لوبيات سلاح ومصارف ونفط شكَّلت حكومات ظلٍّ عصية على الإرادات الوطنية، وتطل برأسها في كل مفصل تاريخي لتُعِيد إنتاج الدولة الوطنية وفق مصالحها وأهوائها، وتحصن نفسها بجملة من التشريعات والشخوص؛ كي تبقى بمنأى عن أي مساءلة أو تهميش أو عقاب.

الديمقراطيات في الغرب بعُمُومها ديمقراطيات مجاعات وشعوب زاحفة على بطونها بامتياز؛ حيث لا حُضور للقيم أو الإنسانية فيها، بل ولا صدى يُذكر لأي حراك جماهيري في الغرب ضد سياسات بلدانهم الخارجية مهما بلغت من القسوة والضرر لشعوب وبلدان أخرى، وكأنَّ الأمر عبارة عن اتفاق جنتيلمان (غير مكتوب) بين الحُكومات والشعوب في الغرب، على عدم التدخل في السياسة الخارجية مهما علا سقف الضرر فيها، ومهما بلغت بشاعاتها، وهذا ما رأيناه بأعيننا وقرأناه في دفاتر الأيام من تدخلات سافرة للغرب واحتلالات لأقطار من العالم، وإعمال القتل والتدمير والخراب فيها، مقابل صَمْت القبور من قبل شعوب قيل لنا إنهم أبناء ثورات قيم ومبادئ الديمقراطية!!

الحقيقة التي لابد أن نُدركها، وتشكل قناعة لازبة لنا كعرب، هي أنَّ الغرب ليس قدوة لنا في كل شيء، وأن منظومة الحكم -في أي بلد- في محصلتها النهائية يجب أن تكون منظومة حُكم رشيد بغض النظر عن مسمى الحكم وشكله وهيكليته.

----------------------------

قبل اللقاء: "دخل أعرابي على الأديب الجاحظ في مكتبته، وقلب وجهه بين أرفف الكتب، ثم نظر للجاحظ وقال له بامتعاض وشفقة: أضعت عمرك بين هذه الكتب بلا جدوى!! فنظر إليه الجاحظ باحتقار وقال: وما يُدريك بالعلم والكتاب يا جاهل؟! فرد عليه الأعرابي ببرُود وتحدٍّ: والله إني أعلم كل ما تحويه هذه الكتب. فتعجب الجاحظ، وقال له بتحدٍّ: وماذا تحتوي هذه الكتب؟ فرد الاعرابي: إنها تقول: أيها الإنسان افعل الخير. فضحك الجاحظ وقال: والله إنك صادق في هذه.

وبالشكر تدوم النعم...،