حاجة الجيل لمحو الأميّة "الإخبارية"

يوسف الشامسي | سلطنة عمان
مدرّس مساعد - قسم الاتصال الجماهيري - كلية العلوم التطبيقية - نزوى


دعوني ابدأ بالسؤال الآني ربما: هل باستطاعتنا اليوم أو قل هل بوسعِنا أصلاً الانقطاع عن متابعة الأخبار ووسائل التواصل الحديثة بأنواعها أم تُراها أصبحت حالة حتمية لهذا العصر؟ هذا التساؤل يدفعني أيضا لأطلبَ من القارىء الكريم في بداية المقال محاولة تسجيلِ يومياتهِ مع وسائل الإعلام من الصباح وحتى وقت النوم مدة أسبوع واحد فقط لتحسس مدى توغل وسائل الإعلام الجديدة بحياتِهِ اليومية، ذلك لإن النظرة الموضوعية لفهم الأشياء تفرضُ على المرء الوقوفَ على حيادٍ منها قليلا، تماما كمحاولة السمكة الخروج من الحوض لتبصر ما وراء الماء، ولا أظن أحدا سيتفاجأ إذا ما وجدنا أغلب أوقاتنا -جيل الشباب بالذات- تقضى في وسائل التواصل الاجتماعي، وأغلب الأخبار تُستَقى منها، ولا داعي لحشو الأرقام والدراسات هنا ولست بصددِ إبداءِ أحكامٍ على هذه الحالة، ولكن يكفي أن ندركَ مدى امتزاج روتيننا اليومي بهذه الأدوات واعتمادنا عليها في الكثير من أنشطتنا  الإجتماعية والثقافية والاقتصادية بل وحتى الصحيةّ التي لم تكن لتقضى في السابق إلا عبر التعامل المباشر مع مختصٍّ كلٌّ في فنّه ومجاله.  
إن محاولة الفكاك عن وسائل التواصل اليوم والإنغلاق والعزلة قد يبدو ضربا من المحال، فالإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه كما هو معلوم، وأي محاولةٍ لجرّه للانعزال هي محاولة لطمس كينونته؛ لكن لم يكن التفاعل على هذا النحو من التعدديّة قبل "الانفجار الإعلامي" وطوفان وسائل التواصل في بداية القرن الحادي والعشرين، فاليوم أصبحنا نستقي من "إذاعة" العائلة و"وكالة أنباء" رفاق الحارة و"قناة" أصدقاء الجامعة عبر الواتس أب شتى الأخبار وكثيرٍ من الشائعات المغلوطة المحلية والإقليمية والدولية، وانتقلت بضاعة "السوق" بقضها وقضيضها إلى حسابات انستجرام فتعددت الخيارات كما تعددت أوجه الإحتيال،
وأضحت وصفات أصدقاء الفسيبوك الطبيّة مقدّمة عند البعض على نصيحة الطبيب الإستشاري ولديهم الثّقة في "إخراج الطبيب الذي بداخلهم" واقناع الكثيرين بمعرفتهم واطّلاعهم!
ذلك لأن مصادر المعلومات ووسائط الإعلام التقليدية فقدت الكثيرَ من سلطتها موثوقيّتها إلى حدٍّ ما -ولهذا أسباب كثيرة تستدعي مراجعة شاملة  للقواعد المهنية لمؤسسات الإعلام ودور المتحدّث الرسمي "الخجول" والغائب عن المشهد- وبالتالي تشكّلتْ بيئة جيدة لإنتشار الأخبار (الصحيحة والزائفة على حدّ سواء) من قبل الأفراد (مشاهير، نشطاء، إلخ من ألقاب تجرّ ثقة الألفوف والملايين)، إذ أصبح المستخدِم نفسُه اليوم منشئا للرسالة وله التحكّم التّام في نقل المعلومةِ ومشاركتِها وبثِّها "مباشرا" عبر هذه الوسائط بغض النظر عن مصداقيتهِ والتزامهِ بأمانة الرسالة وقيمتها الخبرية ومدى إلمامِهِ بالقوانين وأخلاقيات النشر، فتولّد مناخٌ أقرب ما يوصف ب"الهِياج الإعلاميّ" حيث تتدفّق الأخبار من كل حدبٍ وصوبٍ دون أدنى فلترة لإثبات موثوقيّة ومصداقية هذا عن ذاك، وتمازجت الرسائل الإعلاميةّ فلم يعد الفرد قادرا على تمييز الأخبار الصحفية -والتي تهدف لنشر الوعي بالأحداث وتنوير الناس لاتخاذ قرارتهم بأنفسهم دون الوصاية عليهم أو توجييهم- تمييزها من بين رسائل الدعاية السياسية (البروباجندا) والإعلانات التجارية والترويج ورسائل التسلية والمعلومة الخام، وأصبح ترويج الشائعات وتزييف الحقائق والتضليل الإعلامي أسهل من أي وقت مضى، بل وعلى نطاق أوسع باتت الكثير من الحكومات تؤمن بفعاليّة "تسونامي" الأخبار المفبركة كسلاح تدميريّ لتحطيم وعي الأفراد ونفسيّاتهم لا يقلّ أثراً عن سائر الأسلحة العسكريّة، ونحن نرى ذلك يتجلى في النزاعات الإقليميّة اليوم وتصاعد خطاب الكراهية ولغة التخوين وتبادل الاتهامات بين الشعوب العربية، مما ينذر بخطرٍ محدق يطال أمن الفرد الفكري والإعلاميّ إذا هو لم يحصن التحصين "الإخباري" السليم.
ولإيجاز ما نعنيه بالتحصين الإخباري نجد في المنهج القرآني "فتبيّنوا" درعٌ  يختزل جوهر المهارات الصحفيّة ويوجز الحديث عنها،  فالتبيّنُ يتطلب الإجابة عن تساؤلات محوريّة هامّة عند التعرض لأي محتوى إخباريّ: من الذي انتج المحتوى؟ ولماذا؟ وتحت أيّ قيد وظرف؟ ولإجابة هذه التساؤلات لابدّ من فهم قواعد اللعبة الصحفيّة والعوامل الخارجيّة وتأثيرها على طرق معالجتها للأحداث، بحيث لم يعد التركيز في تحليل مضمون الرسالة الإخبارية كافيا، وهذه المهارة لن تتولّد في ليلة، ولكن تستدعي توسيع قاعدة مناهج التعليم لغرس مزيد من الوعي حول بيئة الصحافة وعمليات إنتاج الأخبار وطرق النقد الإخباري، من هنا قامت بعض الجامعات مؤخرا باستحداث مناهج لتدريس القراءة النقديّة السليمة للأخبار، فعلى سبيل المثال أنشأت جامعة ستوني بروكس الأمريكيّة في عام ٢٠١١ معهداً غير ربحيٍّ لـ"محو الأميةّ الإخبارية"، واستحدثت مقرراً إلزاميّا لطلاب الجامعة يعنى بالتقييم النقدي للأخبار، وتوسعت التجربة لاحقا لتشمل عدد من الجامعات بأمريكا وأستراليا وشرق آسيا وأوروبا على أمل أن تمتد التجربة لمختلف الجامعات حول العالم.
لا غرو أن وسائل التواصل الإجتماعي أتاحت مساحة كبيرة لتعدديّة الأصوات، ونجحت إلى حد كبير في تمكين الجماهير من تجاوز "حراس البوابة" أو الرقباء حسب التعبير الإعلامي الذين ينتقون ما يصلح ولا يصلح للنشر؛ بيد أن ذلك - رغم ما يحمله من ديمقرطة للمعلومة - سيفاقم إشكالية الموثوقيّة على حساب الشعبيّة بلا شك،  وهناك العديد من الدراسات التي تؤكد أن أغلب الشائعات التي تحقق انتشارا فيروسيا وشعبيّةً تكون عادة غير صحيحة، لذلك يظل تحصين الفرد وتوعيته بآلية نقد الأخبار والتحقق منها ضرورة ملحة لجيل الألفية الثالثة، وذلك لن يتأتى إلا عن طريق عملية عاجلة لزراعة منهج تعليمي إلزامي لجميع طلاب المدارس الثانوية أو التعليم العالي على أقل تقدير يعنى بالتحصين الإخباري و "محو الأمية الإخبارية" وحقنه بآليات النقد والتحقق التي تم حجرها في أروقة أقسام الإعلام بجامعاتنا، وهذا المقترح سيكون محور المقال اللاحق بإذن الله.

تعليق عبر الفيس بوك