ليست أزمة عمل

 

د. سيف بن ناصر المعمري

ربما يعتقد البعض أنّ الإشكالية التي تؤرق الجميع اليوم من حكومة ومواطنين هي أزمة الباحثين عن عمل وهذا في ظاهره صحيح ولكن في باطنه غير صحيح، فأزمة توفير فرص عمل ما هي إلا نتيجة مستمرة ومتنامية لأزمات أخرى يجب أن نتوقف عندها، ونبرزها في هذا الوقت حتى نعرف أين يمكن أن نضع أقدامنا في الفترة القادمة؟ وإن لم نتحاور حول هذه الأسباب والأزمات الحقيقة التي أنتجت وجود أزمة عمل في بلدنا الذي من الناحية الاقتصادية يتزايد التوسع في بعض قطاعاته الاقتصادية، مما يعني ظهور فرص عمل بعشرات الآلاف، ومن الناحية التعليمية يتزايد التوسع في مؤسسات التعليم وتتنوع ويزداد أعداد الطلبة المقبولين فيها، ومن ناحية ثالثة تتوسع مظلة الخدمات وتزداد الحاجة إلى موظفين من الخارج في مختلف القطاعات.

الأسئلة تبدو ملحة وعميقة ومؤلمة وفي مقدمتها لما تظهر أزمة باحثين عن عمل؟ ولماذا نعلم إن كانت المؤهلات التي يحصل عليها الخريجون لن تتيح فرصة الحصول على العمل ولن تجعل الخريج قادرًا على تأسيس عمل مستقل؟ والسؤال الأكبر من هذا وذاك أين التخطيط السليم لسياسات العمل من قبل المؤسسات المعنية؟ هي ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي يظهر فيها هذه الإشكالية لأننا نذهب لمعالجة النتائج ولا نعالج المسببات والمقدمات التي تقود إليها؟ وبالتالي تستمر النتائج تتفاقم كل عدة سنوات عاصفة بخيرة شباب البلد الذين يمثلون أدوات التطوير إلى التهميش وتعطيل القدرات وبعد ذلك نعود لنقول المواطن أولا والمواطن خط أحمر والشباب ثروتنا، وغيرها من الشعارات التي تتطلب أن تترجم على أرض الواقع، وبالتالي أعود للقول هي ليست أزمة عمل؛ هي أزمة إدارة وتخطيط، وأزمة تعليم، وأزمة قوانين. وفي ما يلي سوف أسلط الضوء باختصار على الأزمات الثلاث.

في ما يتعلق بأزمة التخطيط والإدارة نقولها حرصا إنّ بعض المؤسسات المعنية بملفات توليد فرص العمل أو الحفاظ على المتوفر منها للقوى العاملة الوطنية لم تقدم أية مؤشرات خلال عقدين على نجاحها في التخطيط الجيد لاستثمار رأس المال البشري العماني، وأنّ ما تقوم به هو التفرج على نمو الأزمة وليس منع ظهورها؛ من خلال التخطيط الجيد وقراءة المستقبل من مختلف جوانبه، دون السعي بجدية لمعالجة التحديات التي تواجه مختلف الحلول التي وضعت لاستيعاب هؤلاء الشباب في القطاع الخاص الذي يبدو أنّه غير جاذب للشباب نتيجة تدني الرواتب وقلة الحوافز واشتعال الشباب فيه في وظائف خارج التخصصات التي درسوها. ولذا نخشى أن تكون مبادرات برنامج "تنفيذ" ضمن نفس السياسات التي لم تقد إلى مخرج طويل الأمد، حيث تركز مؤشرات البرنامج على جعل نسبة الباحثين عن العمل في حدود 3 بالمائة بحلول عام 2020، وتوفير نحو 67 ألف فرصة عمل للعمانيين وغير العمانيين في القطاعات المستهدفة الثلاثة لتحقيق التنويع الاقتصادي وهي قطاعات الصناعات التحويلية والسياحة والقطاع اللوجستي، وتوفير فرص عمل للقوى العاملة الوطنية بما لا يقل عن 30 ألف وظيفة في مستويات المهارة للاختصاصي والفني والماهر، يفصلنا عام واحد فقط عن هذه المؤشرات التي وضعت قبل ثلاث سنوات، ما التقدم الذي أنجز فيها؟ من المهم الشفافية حول ذلك لأنّ كثيرا من خطط توفير فرص العمل التي وعد بها المعنيون بقطاعات الاقتصاد لم يأتوا إلا بأقل القليل منها.

الإشكالية الثانية في موضوع الباحثين عن عمل هو التعليم وسياساته المختلفة خلال العقدين الماضيين، وهي سياسات انتقدت بشدة من قبل عدة أطراف في الحكومة، وأكدت الشواهد أن التعليم غير مرتبط بسوق العمل، والمهارات التي يكتسبها الخريجون لا تساعدهم على المنافسة ولا على ريادة الأعمال، وأنّهم في حاجة ماسة للتدريب بعد التخرّج مما يعني أنّ هناك كلفة إضافية لضعف برامج التعليم وتدني جودتها، وهذا يزيد من أزمة العمل مما يتطلب الالتفات للتعليم وإجراء تغييرات هيكلية فيه من أجل حل هذه الأزمة على المدى الطويل. ولقد أكّد تقرير التنمية للعالم 2019 الذي جاء تحت عنوان "الطبيعة المتغيرة لسوق العمل" ضرورة إحداث تحولات سريعة لأنظمة التعليم في دول الشرق الأوسط من أجل بناء المهارات المعرفية المتقدمة، وكذلك المهارات السلوكية الاجتماعية لدى الطلبة، وكذلك مهارات التفكير النقدي وحل المشكلات والتكيف مع أسواق العمل مما يتيح بناء جيل قادر على مواجهة التحديات والمتغيرات في سوق العمل.

فما الذي تقوم به مؤسسات التعليم لإحداث هذه التغيرات؟ اعتقد أن الاستجابة لا تزال ضعيفة والمحاولات لا تزال مستمرة في أكثر من مستوى لاتخاذ القرار، مما يزيد من صعوبة إجراء الإصلاحات الضرورية للتعليم، وبالتالي يجعل ملف الباحثين عن عمل مقلقا على المدى قصير المدى وطويل المدى.

أمّا الثالثة التي قادت إلى أزمة العمل، هي التشريعات والقوانين التي تنظم جوانب كثيرة متعلقة بالقطاع المدني والقطاع الخاص، وتخلق فرصا كثيرة لهذه التداعيات التي يمر بها ملف الباحثين عن عمل، فلا محاسبة ولا تقييم يطال أية تجاوزات للأولويات الوطنية المتمثلة في تقوية الاستقرار الداخلي وتحقيق الأمن الاجتماعي وما يرتبط به من تحقيق الأمن الوطني من خلال تجنب تهميش الشباب، وخير مثال ما أعلن مؤخرًا في التلفزيون الرسمي من عدم تجاوب بعض الشركات مع نسب التعمين المقررة في القوانين، وأيضًا ما قامت به مؤسسات رسمية من الإعلان عن فرص عمل عنونتها "لغير العمانيين"، وهو إعلان أيا كانت المبررات التي سيقت لتبريره، إلا أنّه إعلان فضلا عن كونه تمييزيا واستفزازيا فهو يتعارض مع الأجندة الوطنية التي تخرج من المؤسسات المعنية وكبار المسؤولين في الدولة، فهل سوف سوف تستمر هذه التجاوزات دون أن تكون هناك وقفات للمراجعة والشفافية التي تتيح للجميع أن يشعر بثقة في إجراءات الحكومة في للتعامل مع التجاوزات في هذا الملف.

لا شك أنّ ملف الباحثين عن عمل شائك ومعقد ويتطلب جدولا زمنيا للتعامل معه، وكل ما نأمله هو التعامل بشكل استراتيجي معه من خلال مراجعة الأزمات الثلاث التي ذكرتها وكذلك أية تداخلات ومتغيرات أخرى تتقاطع معها. ونأمل أن يتفهم الجميع ما يقال حاليا في هذا الملف من مختلف الأطراف، وأقصد بذلك تفهم الحكومة بأنّ هناك مسارات تتطلب المراجعة العاجلة والعميقة وتتطلب تحمل المسؤولية والخروج بإصلاحات حقيقية حولها من أجل تجنيب البلد انسدادات ومآلات نحن في غنى عنها في هذه الظروف. وفي الجهة المقابلة، تُفهِم الباحثين عن عمل بأنّ الجميع يشعر بمعاناتهم، ويؤكد على حقهم في العيش الكريم، وبالتالي لابد من التحلّي بالصبر ومواصلة نهج الحوار مع المعنيين حتى الوصول إلى حلول لأنّ هذه الإشكاليات لا تُحل بين عشيّة أو ضحاها..

وكل عام والجميع بخير، وعام جديد حافل بتحقيق الآمال والطموحات لعمان وشعبها.