حلم حارق


نعيمة قربع | تونس
رفع عينيه إلى القمر، سحب تحجبه من حين لآخر و كأنّها تسحبه بعيدا من وجه السّماء... لحظات الظّلمة طويلة جدّا و مثقلة بتوقّع الخطر...
تكوّر في مكانه جامعا جسده في أقلّ مساحة ممكنة من المركب... أحاط ركبتيه بذراعيه و أسند إليهما ذقنه و أحنى ظهره حتّى تحوّل إلى كرة من اللّحم... يعود إليه من حين لآخر شعور فظيع بالبرد فيرتعش حتّى تؤلمه ضلوعه و يتقطّع نفسه و حين تزدحم الهواجس في رأسه و تصبح مخاوفه وحشا مفترسا يشعره برغبة شديدة في البكاء و الاستغاثة يختفي هذا الشّعور تماما و كأنّه لم يكن...                      أحسدك يا أنت و يا أنت و يا ذاك على هدوئكم و اطمئنانكم... هذا على الأقلّ ما يبدو عليه حالكم... هل أبدو أنا أيضا هادئا مطمئنّا؟ هل أبدو شجاعا مثلما تبدون لي ؟ هل أنتم فعلا شجعان أم أنّ بدواخلكم مثل غليان المرجل من الخوف و النّدم؟...
أصبحت كلّ الحوّاس مرهفة متيقّظة مستشعرة للألم... صوت الماء يضرب المركب ويحاصره من كلّ جانب... و ظلمة مقيتة تضرب العيون فتبعثرها في الفراغ... بحر من الماء... و بحر من الظّلام... و بحر من الخوف و الغموض...
الآن فقط أدرك المعنى الحقيقي للنّدم... عاشه حقّا و فعلا... قد يكون تحدّث عن النّدم مئات المرّات في حياته و لكنّه الآن واثق أنّ هذه هيّ المرّة الأولى الّتي يذوق فيها طعمه... يتجرّعه إلى أن يجد مرارته في حلقه و تنقبض معدته و تتقطّع أمعاؤه...
هذا هو النّدم الحقيقيّ... لم يعرفه من قبل... الآن تجلّى له فغرق فيه... اقتحمه النّدم اقتحاما, اكتسحه حتّى وصل إلى كلّ ذرّة من كيانه...
ليتني أستطيع أن أعود في الزّمن ساعتين فقط إلى الوراء... وأعود في المكان... إلى الشّاطئ... فلا أركب مركب الرّعب هذا...
سأصيح بكلّ صوتي: لن أركب... و ليقولوا عنّي إنّي جبان... خوّاف... أرفض مصير "الحارقين"(*)... كيف خرّب الحلم بأوروبّا حياتي؟ كيف سمحت له بذلك؟... ليذهب إلى الجحيم... لن أحلمه بعد اليوم... أنا الآن في المصيدة ..أنتم الآن في المصيدة...                                                                                                                                          
أحسّ أنّه أفلت لتوّه من ذراعين حنونتين دافئتين .. أنّه سقط من علوّ .. مازال يسقط...و ضلوعه تنتظر أن تتحطّم و لحمه ينتظر أن يتمزّق ...لعب الانتظار و التّوقّع بعقله و قلبه حتّى أنهكاه و حتّى استسلم...                                                                                                                                             
وقفت أمام صورة في اطار ذهبيّ و أخذت تمسح دمعا ساخنا لا يريد أن ينقطع ...لعنت في سرّها الفقر و اوروبا ...استرجعت في لحظات أكبر قدر من الذّكريات و كأنّها تراجعها حتّى لا تضيع فتفقده فقدانا جديدا ...تذكّرت لحظة ولادته و خطواته الأولى و كلماته المتكسّرة , تذكّرت ضحكاته, حركاته,ما يحبّه من الأطعمة و ما يكرهه , نبرات صوته , يوم مغادرته ,أشياءه الصّغيرة ,أصدقاءه ,حبّه للملاعب و الكرة ,تذكّرت صوته يناديها ...تذكّرت و تذكّرت و تذكّرت ...أصبح ذكرى ...
.................................
(*) الحارقين: المهاجرون بحرا إلى أوروبا بطريقة غير قانونيّة

 

تعليق عبر الفيس بوك