د. سيف بن ناصر المعمري
إدارة التنمية ومُتطلباتها تحدث في إطار منظومة مُتداخلة جدًا بين مُختلف المؤسسات التي تتكون منها الحكومة، وأكاد لا أبالغ إن قلت إننا من أكثر بلدان العالم تأسيسا للجان والمجالس المشتركة التي تمثل فيها جميع الوزارات أو الإدارات المعنية، مما يعني أنّ هناك فرصة كبيرة جداً لاتخاذ قرارات مشتركة يتوافق عليها جميع المعنيين، وبالتالي أيضًا هناك فرصة لوجود شعور مشترك بالمسؤولية نتيجة تأخر قرار معين أو في أي إخفاق قد يحدث في أي ملف من ملفات التنمية.
لكن يبدو أنَّ كل ذلك التشبيك الحكومي الذي لا يُمكن أن ينفذ من خلاله قرار إلا والجميع على علم به، لم يكن كافياً لتأطير "المسؤولية" والشعور بها، ويظل السؤال يطرح في أي تأخير في مسألة مهمة من مسائل المستقبل والتنمية وهو: من المسؤول عن ذلك؟ هنا الإجابة يفترض أن تكون سهلة ولكن في الواقع ما أصعب تحديد المرجعية المسؤولة في بلدناـ الكل يُرحِّل المسؤولية إلى شخص آخر، والكل يُحيل المسؤولية إلى جهة أخرى، وإلى لجنة أخرى، ومجلس آخر، وهكذا يكون الدوران في الفراغ، الذي تضيع فيه كثير من السياسات والمشاريع والإخفاقات. لذا لا يوجد حتى اليوم أحد من مسؤولينا يُعلن أنه مسؤول عن إخفاق رغم أنه يحمل لقب مسؤول! ولا توجد حتى اليوم لجنة تُعلن مسؤوليتها عن أي سوء تخطيط رغم أنه يطلق عليها لجنة معنية! ولا يوجد حتى اليوم مجلس ينزع عنه نفسه عصمة الخطأ في أي رؤية! رغم أنَّه يسمى بالمجلس المختص، فتضيع المسؤوليات، وتسقط الاختصاصات، وتختفي عند أي إخفاق للجان، وتتقاذف كل مؤسسة كرة المسؤولية مع الأخرى.. وفي ظل ذلك أين دولة المؤسسات التي يحب أن تُحسب فيها الخطوات بدقة كبيرة، وتُحدد المسؤولين بسهولة عن أي عمل؟ ويتم المُحاسبة وفق هذا العمل، ما أنجز وما لم ينجز.
وحتى يكون للكلام معنى، لنأخذ على سبيل المثال ملف التنويع الاقتصادي، وملف الباحثين عن عمل الذين يتزايد عددهم اليوم. ففي كلا الملفين تابعنا جميعاً مختبرات تنفيذ والجهات الكثيرة التي اشتركت فيها، والتبشير بعهد جديد مختلف قوامه الأهداف والمهام المُحددة، وخرج الجميع يؤكد أننا نمضي إلى تأطير المسؤولية وربطها بجهات معينة، وبالتالي تحديد مكامن الضعف ومُعالجتها بسرعة من أجل تنفيذ السياسات بدون تأخير، ولكن بعد عدة سنوات من كل ذلك حين فتح ملف السياحة في إجازة العيد الوطني ظهرت كل جهة معنية لا لتبرر تقصيرها إنما لتعلن أن المسؤولية لا تقع عليها إنما تقع على جهات أخرى، وزارة السياحة تعيدها للبلديات، والبلديات تعيدها للسياحة، وآخرون أرجعوها للمجلس الأعلى للتخطيط، والبعض لوزارة التجارة والصناعة ومضى الأمر دون أن يعرف أحد أين حدث القصور في ذلك، ولن يعرف أحد حتى تأتي إجازة أخرى ويعود نفس الانفعال الجمعي لدى الجميع.
أما إذا جئنا إلى ملف الباحثين عن عمل فتُطالعنا اليوم بعض من تغريدات أعضاء مجلس الشورى ممن شاركوا في مختبرات تنفيذ وناقشوا مع الوزارات المعنية بهذا الملف الشائك، تخرج لنا تغريدات يقولون فيها إنَّهم في هذه المُختبرات وضعوا حلول وسياسات ولكن لا يعرفون لم لم يتم المضي فيها، ومثل هذا الكلام يُثير مرة أخرى مسألة التنمية والمسؤولية وما يرتبط بها من محاسبة، لما لم يتم المضي فيها، ومن هي الجهة التي أخلت بعقد تحمل المسؤولية الذي تمَّ الاتفاق عليه في "تنفيذ"؟ لابد من توضيح ذلك حتى لا نرهن مستقبلنا وبلدنا إلى هذه المسألة العميقة وهي التهرب من المسؤولية، بدلاً من التحلي بالشجاعة في تحملها، أو ترك المكان لآخرين يستطيعون أن يتحملوا كلفة القبول بالمسؤولية.
إنِّه من المؤسف أننا ونحن نعد رؤية للمستقبل، لم نحسم هذه المسألة الجوهرية التي يتوقف عليها أي تقدم، فإن لم يكن هناك محاسبة للإخفاق في إنجاز المسؤوليات لن نتقدم قيد أنملة نحو طموحاتنا وأحلامنا، وسيظل هذا الجيل الشاب الذي يفتح عينيه إلى العالم من حوله ويجد تأكيد مجتمعاته المتطورة والمتقدمة على المحاسبة على المسؤولية، حيث لا يُمكن لأحد أن يصرح بأنه غير مسؤول وهو في الواقع مسؤول من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، لا يمكنه أن يدعي وهو في إطار لجان ومجالس تخطط أو تشرف أو تتابع إنجاز مشاريع للنهوض بالبلد، واستثمار مواردها البشرية، وتنويع اقتصادها، وتطوير تعليمها، أن يخلي نفسه من المسؤولية، ربما أن أحد الأسباب التي نراها لذلك هو غياب التقييم لكثير من خُطط التنمية لسنوات، فالبتالي شعر البعض بأنَّ الأمر سيان؛ أنجز أم لم ينجز، تقدم في إنجاز دور مؤسسته أم تأخر، فهو باق لسنوات لا أحد يسأله ما الذي فعل فيما هو مطلوب منه، وهذا والمسؤوليات كبيرة يتوقف عليها مستقبل البلد، وبالتالي نقف أمام مفارقات كبيرة جدًا؛ حيث يتم تقييم صغار الموظفين على التقصير في مسؤوليات قد لا تكون كبيرة ومؤثرة إذا ما قورنت بتلك المسؤوليات التي يحملها البعض في أماكن التخطيط وصياغة السياسات، فهل سيظل الوضع بهذا الشكل، لدينا مسؤولون ولكنهم لا يعترفون بـ"مسؤولياتهم"؟
السؤال إذن لمن يكترث ولمن يعنيه: أين نحن؟ وأين يجب أن نكون كأمة متميزة تحمل هذه الكفاءات البشرية التي تذهل العالم في أي مكان تتواجد به؟