معادلة الموت والحياة.. أين المفر؟!!


محمد عبد العظيم العجمي | مصر

يكاد يكون ــ لو أمعنا الفكرــ كلاهما موت أو كلاهما حياة..  تلك "الواو" التي تعمل كحلقة الربط أو الفصل أو الاتزان بين طرفي المعادلة حتى يؤدي أحدهما إلى الآخر، فتصير الحياة موتا مؤجلا إلى أجل معلوم، ويصبح الموت نقلة لاإرادية إلى حياة غير معلومة يكتنفها الغيب ، ليُكسف العقل بظلال الوهم عند كل موت ليقف العقل عند منتهاه .. ما أنت في معادلة الحياة إلا كراكب استظل في ظل شجرة ثم تركها ورحل!!،  نتهادى بين الموت والحياة بنفخة الروح التي تهدهدنا وتحملنا حتى إذا ما دعا داعي الرحيل هجرت الروح بنيانها فصار في عداد العدم ، ويعود الإنسان أدراجه إلى "لم يكن شيئا مذكورا".، يبهت الرسم ، ويوارى الذكر ويعفو الأثر، ثم بقايا في التراب  كأنها "مراجيع وشم في نواشر معصم "، " مازال يُؤذن بالرحيل حتى أناخ ببابه الجمال".
إرادة لا يعزب عن علمها عازب ولو ابتغى نفقا في الأرض أو سلما في السماء ، أو تحصن في بروج مشيدة ، تفر منها فإذا هي تلاقيك، وتهرب منها فإذا بك تهرب إليها، ولا يحدو ركابك زاويا عن أعينهاــ وما أنت بغائب ــ سوى سبق المقادير التي تمهلك إلى أجل ، ولا يطيب العيش معها إلا بحادي الأمل الذي حف به الأجل.. " ورد في الأثر: أن الله تعالى حينما أراد أن يخلق الخلق أطلع الملائكة عليهم ، فقالت الملائكة : يارب إن الأرض لن تسع هؤلاء البشر، فقال : إني جاعل فيهم موتا ، فقالوا : إذا فلن يهنأ لهم طعام ، فقال الله : إني جاعل فيهم أملا، قالوا:  إذا فلن يذكروا الموت..
وجاء في سنن الترمذي " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ."،
 وقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما رأيت يقينا أشبه بالشك من الموت " و" الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ".. تلك المعادلة لم تزل مدار البحث ومثار الجدل مذ وجدت الحياة فوجد الموت متلازمان ، يصطرعان فإذا الصراع بينهما بحكمة وقدر.. قدر يترك الأفهام في حيرة يتساءل الإنسان من بدء الخليقة إلى منتهاها .. أين المفر؟!!، ولا جواب للسؤال حتى يتبدد الأمل وينقضي الأجل "ذلك ما كنت منه تحيد" ..
ذكر الدكتور: "مصطفى محمود" في إحدى حلقات "العلم والإيمان" حلقة من صور الصراع بين حتمية الموت والذين يغازلون حياة الخلود؛ عن باحثين شابين ألمانيين قررا أن يخوضا التجربة بروح الشباب وفتنة الحياة علهما يقدمان للبشرية سر هذا( المقلق) الذي أزهقها وأجض مضاجعها ، ويكشفا لها سر الخلود، فتذهب هذه الحيرة المطبقة مولية دون رجوع ..
ورصدت الأموال بين يدي البحث بغير حساب، وبدأت المنافسة .. وألهب حماس الشباب حماس الجماهير التي تنظر في شغف الكشف عن مكنون الغيب وخلاصة السر!! ؛ وبعد رحلة من عناء الجهد والأرق تفجرت هذه القنبلة المدوية التي قاربت بهم للوصول لخط النهاية.. تم الكشف عن ما يسمى (جين الحياة)، ودوت الصيحات مؤملة ، واشرأبت الأعناق وخفقت القلوب .. فقد اقتربت البشرية من لحظة الفصل، ولم يبق إلا التوصل إلى جين الموت ثم الدخول عليه بالتعديل الجيني لتعطيله والإبقاء على جين الحياة وحده.. نكاد نلامس بأيدينا آفاق الخلود ونطوي صحف الفناء !!..  
ومرت سنون أخر في البحث والجهد كالتي مضت، مع لهفة الترقب وسئامة الانتظار، وأنظار العالم معلقة، وقلوب المترفين تبلغ الحناجر، "تجدها أحرص الناس على حياة".. ثم تدوى قنبلة أخرى أشد منها قوة ، أو على نفس القوة من الدوي والإرجاف ..
 لقد رصدوا الأموال وبسطوا الأماني والأحلام (تضليلا) كمن قبلهم "ثم تكون عليهم حسرة "؛ غامروا للإطاحة بعقدة (الفناء)، كما كان يمارى من قبلهم بحقيقة البعث ، وهم على شاكلتهم يعملون .. وإذا بصاعقة القدر تصم الآذان وتشخص الأبصار كما أخذت من كذبوا بالبعث والحياة بعد الموت " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " ،" فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة "..
 ويكتشف الباحثان أن جين (الموت) الذي سعوا للقضاء عليه جاهدين، هو ذاته جين (الحياة) الذي اكتشفوه قبل سنين.. وقد استحالت آمالهم إلى سراب، يوشك بعده الفناء أن يبدد وجودهم  فيحيلهم إلى ما مضى إليه أقرانهم .. نفس الجين يحمل سر (الموت والحياة) معا ، لتتجلى أسرار الخلق لهذا الإله العظيم الذي أجمل القول وفصله من قبل ذلك في (أربع كلمات) فقال " الذي خلق الموت والحياة " وتتجلى سر هذه "الواو" التي ليست فاصلة إلا بقدر ماهي رابطة، ليحمل الإنسان الموت والحياة بين جنبات نفسه ليل نهار لا يفارقه أحدهما ..
إن الحياة سر يغالبه الموت في كل دقة قلب وشهقة َنفَس وزفرته ، يموت بعض ليولد بعض جديد، يتعادل الموت والحياة ، ويقيم البناء نفسه بنفسه (بقدرة ملهمة) محفوظا حتى يصيخ به داعي الأجل فتتبدل جينات الحياة ذاتها إلى جينات الموت ، ويهدم البنيان ذاته كما كان يقيمه ..
يقول د. مصطفى محمود، في كتابه (لغزالموت): "حتى الأفكار تولد و تورق و تزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط .. حتى العواطف .. تشتعل و تتوهج في قلوبنا ثم تبرد .. حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى .. و تتحول من شكل  إلى شكل.. وأصدق من هذا أن نقول أننا نعيش ، إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة. . مادياً نعيش و أدبياً نعيش و معنوياً نعيش .. لأنه لا فرق يذكر بين الموت و الحياة .. لأن الحياة هي عملية الموت".، كما قال شوقي رحمه الله :
في المـوت وفي أسبـــــابه
كل امرئ رهن بطي كتابه
//
أسد لعمرك من يموت بظفره
عند اللقاء كمن يموت بنابه
//
إن نام عنك فكل طب نافع
 وإن لم ينم فالطب من أذنابه
روي أن داوود عليه السلام لقيه ملك الموت ليقبض روحه وهو نازل من محرابه الذي يتعبد فيه ، فقال : دعني أصعد أو أنزل، قال: يانبي الله لقد نفدت السنون والشهور والآثار والأرزاق.. ويروى أنه رأى ملك الموت، فتعاهد معه أن يرسل إليه رسولا قبل أن يأتيه قابضا .. ثم مالبث أن مر زمن فأتاه الملك قابضا دون رسول، فلما ذكّره داود عليه السلام بعهده إليه، قال الملك: بلى قد أرسلت إليك رسلا ، فقال داود : لم يأتني من رسول ، قال : بلى قد أتتك رسل .. ألم يمت جارك ، ألم يبيض شعرك ، ألم ينحني ظهرك ويوهن عظمك؟!! .. كل هذه رسل قد أرسلتها إليك ..
إذا فرسل الموت تعاودنا في كل نبضة وخفقة وشرقة وكبوة وعلة وصحوة وغفوة .. لتقول أن هذا بعض الموت ووفود القدوم بين يديه، وأنها نذر بين يدي الموتة الكبرى " اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42).الزمر"، "  إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30). الزمر"،  فالكل موتى وإن تقلبوا في لحظات الزمان دهرا مترفين أومحرومين، وإن تهادت بهم أوهام البقاء على ظهور ركائب المتع سادرين في غفوات الأمل، فصرفتهم عما ينتظرهم ، أوذهبت بهم غمرات الحياة كل مذهب..  فإنه حتما "إلى ربك يومئذ المستقر".
لطالما شغلت هذه المعادلة عقول المفكرين والفلاسفة والعلماء ، وحاروا فيها بين شتى الفكر .. وقد يكون من أبدع ما يرزق (الإنسان) هذا الفضول المعرفي الذي يظل يؤرق نظر العقل ويوقظ نفَس الفكر، بالرغم أنه لا يروى ظمأ العي جواب مستقر، حتى تفيض الروح سيالا من العلامات والسؤالات والاستفهامات في الكون والنفس والوجود والعدم ، ويظل نهم العقل حافزا حائرا يريد أن يسفر عن محجوب الغيب فيما أشكل على الفهم، فتنقضي النفس ولما يقضي من الحياة وطره ، ولا تقر روحه بما علم إلا أن يظفر بعلم ما جهل .. ولو أراد الله لهذا المخلوق (الإنسان) أن يحيا بليدا مأفولا لما رزقه هذا الفضول وأعطاه هذا النهم، ثم أطلقه في مفردات الكون ولم يحد له حدودا .. قد يحجب عنه ما يكون في حجبه رحمة به ، وقد يحتاج الأمر إلى شيء من فضول الجهد حتى يكشف له عن مكنون السر الذي يؤرق الفكر .. فمن باحث حائر كالخيام:
لبست ثوب العيش لم أستشر
وحرت فيه بين شتى الفكر
//
وسوف أنضو الثوب عنى ولم
أدرك لماذا جئت أين المفر
ومتأمل متطلع يرى الموت نقلة مخلصة للروح من قيد الفرح والكدر والرغد ، كما يقول جبران :
  وما الحياةُ سوى نومٍ تراوده
 أحلام من بمرادِ النفس يأتمرُ
//
والسرُّ في النفس حزن النفس
يسترهُ فإِن تولىَّ فبالأفراحِ يستترُ
//
والسرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ
فإِن أُزيل توَّلى حجبهُ الكدرُ
//
فإن ترفعتَ عن رغدٍ وعن كدرِ
جاورتَ ظلَّ الذي حارت بهِ الفكرُ

ومتعجب لا يرى الراحة إلا في التسليم كقول المتنبي:

ألا لا أري الأحداث مدحا ولا ذما
فما بطشها جهلا ولا كفها حما..
//
نعد المشرفية والمعالي
 وتقتلنا المنون بلاقتال
//
ومن يعشق الدنيا قديما
 ولكن لا سبيل إلى الوصال
//
 نصيبك في حياتك من حبيب
نصيبك في منامك من خيال.
وما تزال معادلة (الموت والحياة) منذ أن وجدت عصية على التفسير والتأويل والتحليل، وما يزال فضول الإنسان لا يقر على قرار رغم ما مر على البشرية من التجربة والعلم والزمن الذي لم يشأ أن يفصح لهم ولو بالقليل من سر هذا المكنون، فجعل الإنسان يستعيض عن المعرفة بالحيرة ، وعن الإدراك بالعجز، ليعلم أنه هو الإنسان المنطلق بدوافع العقل، وهو أيضا المحدود بقيوده .

 

تعليق عبر الفيس بوك