قصة قصيرة: ضد مجهول


لميس الزين | سوريا

تناهى لسمعه أصواتُ حركةٍ غير اعتياديّة في الزّقاق، تبعتْها أصواتُ سيارة إسعاف. أسرعَ إلى الكرسي الوحيد في الغرفة، يجرُّه ويعتليه ليتمكَّنَ من مطِّ جسدِه خارجَ النافذة الخشبيّة كي تتسنّى له مساحة أكبر للرؤيّة. كانَت هناك جمهرةٌ من أهالي الحيّ وبعض رجال الشرطة أمامَ عمارة الأستاذ سعيد. في الحقيقة العمارة لم تكن للأستاذ سعيد، لكنّه كمعظم أبناء الجوار درجَ على نسبتها له لأنّه تقريباً الساكنُ الوحيدُ أو الأبرز. فهي عمارةٌ قديمةٌ تتألَّفُ من دورَين فقط؛ الدَّور الأرضيّ له بابٌ مُستقلّ مُجاوِرٌ لمدخل العمارة، أمّا الدّور الأول فيتألّف من شقتَين صغيرتَين، يسكنُ الأستاذ سعيد إحداها، ويسكنُ ابنُه سمير وزوجتُه وولداه الشّقة المُقابِلة.
ارتدى آدم ثيابَه سريعاً ونزلَ إلى حيثُ تجمَّعَ أهالي الحيّ القديم. خرجَ رجلانِ يحملانِ نقالة عليها جسد مُسجَّى، واضح من تغطية وجهه أنّه ميتٌ. تحسَّبَ وحوقلَ كما الآخرون، طرقَت أذنَه همساتٌ مُبهَمة عن أنّه وُجِدَ مقتولاً في الحمّام، همهمَ بعضُ الرّجال بعباراتٍ استنكاريةٍ لهذا الزّمن العاطِل، وبشيءٍ من لعناتٍ لأولاد الحرام الّذين لا يخافونَ الله.
انتهى رجالُ الأمن من رفع البصمات في المنزل، وبدؤوا بسؤالِ الحضور كلّ عن اسمه وعلاقته بالمغدور، وإن كانَ سمعَ أو رأى شيئاً مريباً خلال الليلة الفائتة، فقد مضى حوالي عشرونَ ساعةً على وفاته حينَ كسرَ ابنُه البابَ عليه. أمَّا هو فقد حرصَ على معرفةِ أكبرِ قدرٍ من المعلومات لخبرٍ سيزفُّه سريعاً إلى الصَّحيفة التي يعملُ مُراسلاً لها.
"في سابقةٍ خطيرةٍ وسطَ حيّ سكنيّ هادئ، وُجِدَ المواطنُ سعيد اللافي الموظَّف السّابق في مديرية المصالح العقارية مقتولاً في بيته. يذكَرُ أنَّ المغدورَ هو أرملُ متقاعدٌ يسكنُ وحيداً. وما تزالُ التّحقيقات جارية للكشف عن هويّة المجرمِ لتطالَه يدُ العدالة. وسنوافيكم بمستجدّاتِ القضية تباعاً".
- ممتاز آدم. أريدكَ أن تتابعَ مجرياتِ التّحقيق ما أمكنَ، وإن استطعتَ أن تجريَ حواراتٍ فسيكونُ تقريرُك أقوى طبعا. ابحث عن الأمور المشوقة. هل تفهمُني؟القارئ تشدُّه القصص السّاخنة.
******
أيامٌ مضَت على حادثِ اغتيال الأستاذ سعيد، ولم تسفِر التّحقيقات عن شيء ذي جدوى في معرفة القاتل. ولاسيما أنَّ لا آثارَ خلعٍ أو كسرٍ أو سرقةٍ. الابن وزوجته كانا يبيتان عند أهلها ليلة الحادث. إذاً ليسَ هناك مَن كانَ ممكنا أن يكونَ قد رأى أو سمعَ ما قد يفيد.
******
بعدَ طرقاتٍ عديدةٍ فتحَت لهما البابَ بحذرٍ امرأة تجاوزَت منتصفَ العقدِ الثالث، ليست ذات جمالٍ صارخٍ ولا مظهر فتاة ليلٍ. ملامحٌ هادئة، وعينان شهلاوان، وشعرٌ بنيٌّ قصير، ترتدي سترةً بياقةٍ عالية وبنطالاً من الكتان وحذاءً واطئَ الكعب، كانت أقربَ للرّصانة منها للحيويّة، لذا لم يكن من السّهولة استنباط أحكام سريعةٍ عن أيّ نوعٍ من النّساء هي.
أما الشقة فكانت صغيرة بأثاثٍ بسيطٍ لا يخلو من لمسة أنثويّة. غرفة الجلوس عبارة عن أريكتين وطاولة تلفاز، لوحتان إحداهما لمنظر طبيعي والثانية للموناليزا تصدَّرتا الغرفة، وعلى الجدار الآخر مكتبة جدارية حَوَتْ مجموعة من الكتب وأعداداً من مجلاتٍ نسائيّة.
- هل تعرفين الأستاذ سعيد ؟
بدا وجهُها هادئاً كمَن يتوقَّع السّؤال فلم يبدِ أيَّ ردَّة فعلٍ، أضافت ملعقتَي بنٍ وهي تقول:
- التقيته بضعَ مرّاتٍ.
- هل عرفت أنه مات ؟
- نعم. سمعت الخبر.
- مات مقتولا.
أضاف وهو يتأمّل وجهَها منتظراً أن يفصحَ بشيء ما، لكنّه لم يقل أكثرَ ممّا قاله لسانُها:
- رحمه الله.
- متى كانت آخرُ مرّة رأيته ؟
- الثلاثاء.
- يعني قبلَ موتِه بيوم واحد.
- نعم.
- أين التقيُتما ؟
- هنا.
- منذُ متى، وأنتما على علاقة ؟
- لسنا على علاقة.
- ماذا كان يفعل هنا ؟ يعلمك أوراد الفجر ؟
لم تعلق على اتّهامه التّهكمي.
- هل سبق وزرته في بيته؟
- لا.
أجابت دون أن تنظرَ إليه بوجهٍ خالٍ من الملامح.
ناولت فنجان القهوة للشرطيّ الذي يسجّل الإفادة، فيما كرَّرَ عليها السؤال:
- منذ متى تعرفين المغدور ؟
- منذ بضعة أشهر. .أربع أو خمس.
- هل كانَ ينام هنا؟
نظرت إليه لأول مرّةٍ وهي تجيبُ: "لا "
- هل كان بينكما مشروع ارتباط ؟
عادت للنظر لصينية القهوة التي أمامَها وهي تقول:
- ليس تماماً!
- ماذا إذاً ؟
- لا شيءَ محدَّدٌ. كانت علاقةً تعارف لم تتبلور بعد.
- حتّى الآن، أنت آخرُ شخصٍ معلومٍ شاهدَه قبل موته. تدركينَ أن هذا سيجعلُك موضعَ استفهام. لم تجب.
- أين كنت ليلة الأربعاء ؟ مرة أخرى تكتفي بالصَّمت رداً.
- سنضطرُ أن نطلبَ منك مرافقتَنا.
******
لم تبدِ شمسُ أيَّ ردودِ فعلٍ مفيدةٍ في جلسة التحقيق الأولى، بدَت للمُحقق شخصيةً مُحيّرة بحياديتها.
- كيفَ تعرَّفت إلى المغدور بداية ؟
- صديقةٌ دعتني للمقهى، قالت إنّ خطيبَها سيكونُ معَه صديقٌ قديمٌ، تريدني أن أراه.
- ثمَّ ما الذي حصل؟
- أخذَ رقمَ هاتفي، تحادثنا مراراً وتقابلنا بضعَ مراتٍ.
- أين ؟
- في أماكن عامّة. ومرَّة في بيتي.
- أيّ نوعٍ من الرّجال بدا لك ؟
- سعيد رجل مثقّف، لكن الرّجل، في هذه السّنّ، يصبحُ صعبَ المراس، وليس سهلاً تخلّيه عما اعتادَ عليه عمراً.
- هل حدَّثَك عن علاقتِه بابنه ؟
- ليسَ كثيراً، لكنْ فهمتُ أنّها علاقةٌ ليسَت كثيرةَ الودّ.
- هل عرضَ عليك الزّواج ؟
- ليس بشكل صريح.
- ولماذا رفضت ؟
- نصيب.
- وهل النّصيبُ يتضمَّنُ أن ترفضَ المرأةُ كلَّ من يتقدّمُ لها؟
- من قالَ أنّي فعلت؟
- امرأة جميلة مثلك لابدّ أنَّ رجلاً، بل رجالاً طرقوا بابَها.
- ليس كلَّ من نريده يريدنا.
- إذا فهناك روميو.
- هل لي أن أسألَ ما علاقةُ ذلك بالقضية ؟
- يجبُ أن أعرفَ من أنت، ومعَ أيِّ نوعٍ من النّساء أتعاملُ، لأستطيع تقييمَ باقي إجاباتِك.
- أنا امرأةٌ عاديّة مثلَ الكثيرات لم يقدَّر لها الالتقاءُ بالرّجل الذي تحلمُ به، ففضَّلت الوحدةَ على ارتباطٍ فاشلٍ.
- أين كنتِ ليلة الثلاثاء مابينَ الواحدة والثالثة صباحاً.
- في بيتي.
- هل هناكَ من يؤكِّد كلامك؟
- بالطبع لا فأنا أسكنُ وحدي.
- زائر ليلي ربما.
- ابتلعت الإهانة المبطنة واكتفت بالنفي فاستمر بمحاصرتها.
- ألم يسبق أن قضى المغدورُ ليلةً في بيتك ؟
- لا
- لكنّك قلتِ إنّه زارَك.
- قلتُ زارَني، لم أقل باتَ عندي.
- هل زرتِه في بيته ؟
- لا
- تقريرُ البصمات أظهرَ بصمةً لك.
- كنا على موعدٍ، وعندما وصلتُ قال إنّه نسيَ أخذَ دوائه واستأذنَ بالمرورِ على البيت أولاً، لم يحبّذ فكرةَ وقوفي بالمدخل تحسبا لمرور أحد.
- كانَ ممكناً أن يتصادفَ ذلك وأنت تدخلينَ الشّقة معَه. لم تجب.
- تدركينَ جيداً أنَّ وجودَك في شقته، وكونُك آخرَ مَن رآه، يجعلُك المُشتبهَ به الرّقم واحد.
- لكن لا علاقةَ لي بالجريمة، أنتم فتشتُم بيتي، فهل وجدتُم سلاحاً أو أيَّ شيءٍ ذي صلة؟

******
سنواتٌ مضَت على جريمةٍ لم يعرف مرتكبها، تعرَّف خلالها آدم الصحفيّ الشابّ على المُتّهمة سلمى، ونشأت بينَهما علاقةٌ فوقَ الصّداقة ودونَ الحبّ، لمسَ خلالَها كيفَ تحيلُ الحياةُ القاسية الإنسانَ إلى كائنٍ آخرَ يشبهُه من الخارج، لكنّه من الدّاخل الصّورة الشّوهاء للأصل، كلّ غدرٍ يقتلُ فيه شيئاً حتّى تموت الأجزاء، كلّ ظلمٍ يجفّفُ شرياناً، كل ضيم، كل خديعة، فإذا نحنُ كائنٌ آخر، بالكاد نعرفه.
في إحدى زياراتِه لها توقَّف أمامَ المكتبة الجدارية الصغيرة يحملَ كتاباً لنوال السّعداوي، أبدى استهجانه لآرائها، ثمَّ سألها:
- لماذا لم تتزوّجي؟
- لم يعد لدي ما يكسرُه الزّواج.
- سأستعير الكتاب.
- ألم تقل إنك لا توافقُها الرأيَ؟.
- بلى. لكن سأكتب مقالا عنه.
*******
في تلك الليلة لا أحدَ يعلم ُما الذي وجدَه آدم داخلَ الكتاب، لكنّه لم يَنم، أعادَ قراءةَ الورقة مراراً، ظلَّ يتقلَّبُ لساعاتٍ وهو يقلِّب أمراً في رأسه.
طرقَ تفكيرَه سؤالٌ عابرٌ، أغمضَ عينيه عليه:
" أليسَ من العدل أحياناً أن تظلَّ القضيةُ ضدَّ مجهولٍ؟!. "

 

تعليق عبر الفيس بوك