قصة قصيرة: شمس الأصيل


د. محمد الدفراوي | مصر

التقطه من علي الرصيف كما تلتقط الخرق البالية.. وقتها كان يفكر كيف سيتدبر يومه؟ كيف يقضي حاجياته دون أن يسأل احدا من رفاق السكن في المعسكر.. و حين أشار إليه بالركوب لم يتردد .. دار بينهما حدث مستهلك خالي من حرارة: ما اسمك؟ وأين تسكن؟
 باقتضاب يجيب، بدا متجهما، سمع الكثير عن حالات ضياع الأجور، أو زهده نظير الجهد الذي يقوم به.
 تقبل الأمر فلم يكن عنده بديل.
وطئت قدماه منزل السيد حتي أجهش بصوت مبحوح: انزل و تعال ورائي.
شعر بانقباضة في روحه، خطر علي باله أن ينصرف لكن جوعه الشديد والأسرة منعاه من مطاوعة هذا الخاطر.. فقد رأى يومه غير سعيد.
أجاب: وراء يا حاج ..
دلف باب الحوش؛ تُسمع أصوات العويل، شعر أن البيت مكتظا بالناس دون أن يرى أحدا، اعتقد أنهم اختبأوا في غرفهم  بينما عيونهم تتلصصه وآذانهم صاغية لصوت قدميه.. تنفس حتى هدأت نفسه المترعة بالقلق والاضطراب.. يحاول أن يسيطر علي قدره.
أمامه يسير الحاج منتصبا، كأنه حارس زنزانة غريب الأطوار، لكنه مسكين مثلنا بشكل أو بآخر.. لم يطمئن له، ولا لنبرات صوته المزعج وفي الجوار دورة المياة  دفع الحاج بابها،  ثم  تكلم من وراء ياقة وشاح  يتلحفه:
 نريد تجديدها و إزالة  الأسمنت من حوائطها. أتفهم !؟
رد بصوت يرتجف: إن شاء الله  يا حاج.. وانصرف، خلع جلباب الخروج وارتدى سروالا  باليا وقميصا مغبرا.. شعر بأهل البيت وراء النوافذ يراقبونه.. فزاد قلقه وتوتره.. قال لنفسه: أرجو ألا أكون جئت إلى المكان الخطأ.. يمكنك أن تتخيل أفكاره وهواجسه.
الشمس ناعمة لم تشتعل بعد .. قرر إنهاء مهمته في أسرع وقت .
ما أن بدأ العمل حتى تصبب منه العرق، لم يكن يستطع ابتلاع ريقه المغموس عجاجا مسموما..  خفتت حدة الرؤية لما علا حاجبه الغبار السفي حتي غطا مقدمة شعره ..
 يتلهف لجرعة ماء بارد يطفئ به ظمأه.. فضلا عن طعام يشم رائحته تنبعث من الجوار تستثير شهيته غصبا، لايملك إلا أن يمني نفسه بشيء.. نسيت معدته مذاق الطعام البيتي المعتنى به مخدوم صنعة وتسبيكا.. سكوته يقول أكثر مما تقوله الكلمات..
يداعبه خياله فيعده بكل ما لذ وطاب.. حاجّه العجوز يستفزه تلصص العيون عليه.. أدار مقبض الباب محاولا أن يفتحه لكنه لم ينقد له، وجد نفسه في غرفة كالقبو المعتم.. كان الأجدر به أن يترك باب القبو مفتوحا.. نسيت معدته الطعام والشراب.. بدأت روحه  تتلهف للهواء النقي،  سأكتفي بأن أنجو من هذه المهلكة.. عقد نيته على أشياء دون أن ينفذ منها شيئا كعادته.. فقد كانت حاجته للبقاء والمال أكبر مما عزم عليه نيته الرخوة.. صحيح أنه لم يبح بها لنفسه صريحة لكنها كانت مفهومة كاسمه .. الشمس في كبد السماء.. عرقه يتصبب.. الهواء بدا شحيحا.. حزبته الرغبة في التبول  وكثيرا ما تحزبه لم يكن أمامه حرية الاختيار، وضع ذراعه خلف ظهره  ونظر من طوق مرتفع في الجدار  وراح يتبول علي الجدار، كل شيء مختلط في رأسه : الجوع والتبول والتعب والنجاة والسجن ..  شعر بحاجة إلى نوم ينتزعه من هذا الغباء فلم يكن يصدق ماهو فيه.. لمس الأرض بمؤخرته كأنه منكفيء ورأسه مائلة.. بزفرة زفرته لافحة: لاشيء ينجيني من المهلكة اليوم .. تسلخات وتشنجات جلدية و آلام  في خريطة جسمه وانتفاخ و احمرار في العينين و اليدين والقدمين .. ترك اليوم ندوبه الغائرة في نفسه ..
 شمس الأصيل تميل للغروب بعدما قضي يومه بلا طعام ولا شراب ونفسه ترتجف.. كان يخشي أن تجد سلامته صعوبة في العثور عليه حيا أو ميتا .. الأمر ينتابه بالهلع.. قال لنفسه: لم يفلت من المرار أحد من أهلي.. الرحيل يغفر لي  أشياء كثيرة  لما أنا فيه الآن .. لسنوات كان يعتقد أن أحواله ستتحسن لكنه الآن لم يعد يعتقد ذلك.. لا يخضع لإرادتنا ولايأتي بناء على طلبنا...

 

تعليق عبر الفيس بوك