إنهم يا ولدي يحملون الوهم.

قصة قصيرة: هبوط اضطراري

كرم نبيه | مصر


مشاهدة أولى:
            بهذا النحيب غير المنقطع ودعته النسوة وبكين على قبره ، ومازلن ، يوم أن مات ،  كم كان هذا اليوم يوماً مهيباً في الأيام لم نشهد مثله قط من قبل ، رأيت القرية كلها خرجت تشيع جثمانه المحمول على أكتاف الرجال عابرين به القرية في طواف كما لو كانوا يطوفون حول قدس أقداس نبي فأي شخص هذا الذي تصنع معه قريتي هكذا؟ أجابتني جدتي - أو بالأحرى جدة أمي -  إنه رجل عاش عمراً طويلاً؛ وجدوه في القرية لا يُعرَف له أب أو أم ، عاش حياته كلها غريباً، وغريباً في موته أيضاً. عاش في منطقة لا يسكنها سواه، منطقة موحشة جداً لا تشجع على السكنى فكان يعجب أهل القرية كيف كان يعيش فيها وحده، اتخذ من الليل صديقاً يبثه همومه ومآسيه كان يذهب إليه أهل القرية يقضي لهم حوائجهم  وطلباتهم أعطوه مسحة من القدسية كما لنبي أو شبه نبي، تذهب إليه النسوة اللاتي لا ينجبن طلباً للخلف الذي يحمل نسب العائلة ويرث أباه، يذهب إليه المرضى ومن بهم سقم أو داء طلباً للعلاج .
سألت جدتي :
-    كيف كانت ملامحه؟
-    لم يره أحد
-    كيف وهم يحملونه الآن على أعناقهم؟

***
مشاهدة من فوق قرية منسية                                   
          وقف كعادته دائماً فوق قمة الجبل يراقب قريتنا اليتيمة البائسة ، اعتدنا ذلك فنحن نرفع وجوهنا ونتطلع إليه لننظر وجهه أو قل لنحاول أن نرى وجهه فلا أحد منا استطاع رؤيته ، حجبه البعد عنا وواراه الجبل عن أعيننا إنما كنا نراه كشبح لا معالم واضحة له ،  أما هو فيرى الجميع بوضوح تام ولا يحرك ساكناً تجاه أي من الأحداث التي تمر بها قريتنا بل إن كل ما يفعله هو التلذذ والاستمتاع بتلك المشاهدة من أعلى نقطة ، رأى قريتنا تغوص في همومها ، يجوبها  الموت فقراً ، في قريتنا لا مكان للحب بل هي بكاء لا ينقطع ونحيب شاخت معه قلوب أطفالها ، كان يجول ببصره فيرى المقبرة التي نواري فيها موتانا الذين يتساقطون كأوراق التين اليابسة رأى كلاباً تنهش عظام الموتى ، إذ لم تجد ما تأكله في القرية ، رأى المرأة التي تقيم في المقبرة منذ سنوات عدة حيث فقدت زوجها وأخاها في الحرب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل رأى من راح يضاجع امرأته بعد أن ماتت رآه يزني بالميت وبالقبر، لم يستطع رؤية المزيد مما يحدث في المقبرة فحول بصره ، رأى الزوجة الثلاثينية العمر التي تخون زوجها ، لم تستطع انتظار غيابه في بلاد البترول أكثر من عشرة سنين فسلمت جسدها الشبق، التواق دائماً لحضن دافئ ترتمي إليه، إلى جارها الذي ما أن أتته الفرصة حتى اقتنصها، ليشبع شهوته ويطفئ لهيب الشبق لديها، رأى أطفال القرية ينهش الجهل عقولهم فمن يهتم بتعليمهم وسط هذه الأمراض المتفشية في عقول أهل القرية ؟ ، أما فتيات القرية فلا يحلمن بأكثر من غرفة في بيت واسع تجمعها مع عريسها لتجرب إحساس الأمومة منذ طفولتها ولا تعرف أن تعيش زوجة بل هي أم تقوم بخدمة البيت كله وتهتم بأولادها ولا يجمعها مع زوجها سوى لحظات آخر الليل يضاجعها متى شاءت غرائزه،  أما شباب القرية هؤلاء يراهم أكثر وضوحاً وتجلياً إذ كان يراهم يتسابقون في ركوب النخل وتسلقه من أجل الحصول على البلح ، أما اليوم فالنخل عاجز  عن طرح البلح وكذلك الشباب عجزوا عن تسلقه فمن هجر من ؟ هل هجر البلح النخل لأن الشباب هجره وما عاد يتسلقه أم العكس ؟ ، ليس لدي إجابة قاطعة عن هذا السؤال بالتحديد . بل إن ما لدي مجرد تبريرات ، أما أنا رآني غارقاً في هم وخيم ، كل ما أفعله هو احصاء هموم قريتي ومآسيها ومحاولات أن أرى أي ملامح له في وقفته فوق قمة الجبل ، انتهت كلها بالفشل ، كانت آخرها يوم ظللت مولياً وجهي نحوه منذ شروق الشمس حتى مغيبها ، وعند المغيب رأيته يتدحرج من قمته الجالس فوقها ويرتطم بحجارة الجبل ولما لم يستطع انقاذ نفسه من الهبوط رأيته يتطاير  في الجو  ويتناثر كالرماد الذي تذريه الريح عن وجه الأرض .
***
مشاهدة أخيرة:
كي تسير على أرض صلبة يلزمك قلب مستنير على عوالم أخرى غير عالمنا هذا، ذلك ما قاله لي شيخي في تجليه، قبل أن ينهض تعلقت بطرف خرقته، فعلقت في يدي قطعة منها، قال: هذي حظك، فلتمكث بها طيلة عمرك، لا تبرح عنها يوماً، أو تخلعها ساعة .
قلت : أريدك أنت لا الخرقة
-    : الخرقة أبقى وأقرب منك إليك
-     : كيف ؟
-     : فتش عنها داخلك
-     : أوضح
-     : إن رأيتها بعين قلبك، ستحتويك ، وأنت لن تحتويها .
ومضي وتركني أصارع نفسي الأبيّة على الفهم.

 

تعليق عبر الفيس بوك