د. صالح الفهدي
يقول الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور "باسي سالبرغ": إنَّ أول خطوة اتخذتها فنلندا للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم. الجراثيم!! وهل للتعليمِ من جراثيم؟! هذا ما تراهُ فنلندا، ويبدو أنها حدَّدت الوصف الصحيح للأساليب التي يجب على التعليم أن يتخلَّص منها، وهي في نظره ستةُ جراثيم هي كالآتي: تكثيف المواد، كثرة الاختبارات والواجبات، إطالة أوقات الدوام، الدراسة المنزلية، الدروس الخصوصية، والمواد المعقدة.
هذه كلُّها أساليب يؤكد سالبرغ أنّها جراثيم قادرة على هدم أي نظام تعليمي يتكئ عليها، لأنها ممارسات غير تربوية من شأنها إرهاق الأستاذ والتلميذ معًا، وإضعاف عملية التعليم ككل. دعونا نتحدث عنها قليلاً ونقارنها بالتعليم السائدِ عندنا.
الجرثومة الأولى وهي تكثيف المواد. وهي إحدى أهم الجراثيم التي يتصف بها تعليمنا وفق قاعدة التعامل مع الطالب بالكم وليس بالكيف؛ كم يحفظ من المعلومات؟ كم يتلقى من الحصص يومياً وأسبوعياً؟ كم يحل من الواجبات المنزلية؟ كم مرة يختبر؟ كم وكم وكم؟ أصبحنا -في منظومتنا التعليمية- نتعامل مع الطالب وكأنه خزَّان معلومات، أو كما أسماه باولوفريري بـ "التعليم البنكي" الذي يصوِّر المتعلمين كأنهم حسابات بنكية يتم إيداع المعرفة في أذهانهم من قِبل الأساتذة..
لهذا تجد الطالب يعبُّ ويخزَّن من المعلومات ما استطاع إليهِ سبيلا..! حتى إذا جاء الاختبار أفرغها في الأوراق وخرج من القاعة وهو لا يكاد يتذكَّر شيئاً، لأنه أفرغ ما حفظ من المعلومات! لقد وصفت فنلندا هذا الأسلوب بالجرثومة الخطرة على التعليم لأنه يتعامل مع الطالب وكأنه مجرَّد خزَّان معلومات وليس ككائنٍ مفكِّرٍ له عقليته الناقدة، المحلِّلة، المتسائلة، وطبقاً لمفهومها هذا فقد تخلَّصت فنلندا من أول الجراثيم: تكثيف المواد. تقول مديرة مدرسة فنلندية: لا يمكنك أن تتوقع استيعاب العقل إذا ظلَّ يشتغلُ متواصلاً دون راحة، لهذا فإنّ الحصص الدراسية في فنلندا مفصولة باستراحة لعب وترفيه مدتها ربع ساعة، يستريح فيها العقل ويتجدد فيها النشاط، ويتنوع فيها التفكير.
الجرثومة الثانية التي تخلصت منها فنلندا هي كثرة الاختبارات والامتحانات. لقد فعلوا خيراً في الطالب بإبعاده عن شبحِ الاختبارات والامتحانات المرعب. جائني إبني العام المنصرم بعد اليوم الأول من سنته الدراسية الأخيرة وهو محبطٌ نفسياً، لأنّ المعلَّم قد أهال عليهم بالوعيد والتهديد والترعيب من الامتحانات التي لا ينجو منها إلا ذو حظٍّ عظيم...!
تشكِّل الاختبارات والامتحانات في تعليمنا عاملَ خوفٍ ورعب للطلاَّب، بل ولأسرهم أيضاً لأنها مرتبطة بالمصير المستقبلي الذي يحدد اتجاه الطالب. هل يمكنُ أن نتصوَّر أن مصيرَ إنسانٍ يتحدَّدُ في غالبيته بحسبِ أوراق ولحظات بسيطة جداً من حياته في المدرسة؟ كيف كانت حالته حينها؟ مريضاً، أو قلقاً، أو خائفاً، أو يعاني من مشكلات أُسرية أو عاطفية.. كل ذلك لا يهم فالمؤشِّر هو "الإجابة عن ظهرِ قلب"..!
لم تقتنع فنلندا بمردود سياسة الاختبارات، لهذا حدَّدت دور المدرس الفنلندي في مساعدة كل طالب لفهم المادة داخل الصف، دون ملاحقة الطالب بالامتحانات الطويلة والقصيرة والمفاجئة، أو مواسم الرعب النهائية.
ورأت هذه الدولة النابغة في التعليم أنَّه إذا اطمأن الطالب في يومياته الدراسية، استطاع أن يفكر ويعبِّر ويتطور. أمّا التشديد والتهديد بالاختبارات، فله عواقب انسحابية خطيرة، ابتداءً بمشاعر التوتر والقلق، مرورًا بالضغوطات النفسية الحادة، وصولًا في حالات مؤسفة إلى المفاصلة بين التعليم أو الحياة، وكأنّ التعليم مناقض للحياة.
إنَّ أعظم ما تراه فنلندا في هذا الصدد هو أنّ دور المدرسة أكبر من أن تحكم على طالب من خلال ورقة، فهي ترى أن التعليم ليس للتقييم.
الجرثومة الثالثة هي إطالة ساعات الدوام، وتعني إنهاك الطالب ذهنيا وإرهاقه جسديا، مما يتسبِّب في ضعف التركيز لديه، خاصةً إذا ارتبطت إطالةُ الوقت بحشو المعلومات الذي يسبب إهدار الوقت وزيادةِ الملل للطالب والمعلم على نحوٍ سواء..!
لقد رفعت فنلندا شعار "تدريس أقل، تعلُّم أكثر" وهو ما يعني تقليل وقت التدريس مع تعلُّمٍ أكثر، لأنّ فنلندا ترى أنّه لا توجد علاقة بين زيادة أوقات الدراسة والتفوق، بل على العكس من ذلك، إذ لوحظ أنّ الدول التي يتفوق طلابها كانت تقلِّل من ساعات دوامها الدراسي...! في حين الدول التي أظهرت تدنيًا في مستويات طلبتها هي التي كانت تعتمد على زيادة ساعات الدراسة.
هذه الدولة المتفوقة في تعليمها ترى أنّ الفكرة القائلة بأن تقدُّم الطالب تعليمياً مرتبطٌ بزيادة عدد ساعات الدراسة هي مجرد خرافة..! لهذا طبقت فكرة التقليل في ساعات الدراسة، فأصبح الطلاب الفنلنديون هم الأقل مكوثًا في المدرسة، وخلت البيوت الفنلندية من الدروس الخصوصية، وأصبح المعلمون الفنلنديون يقضون ساعات تدريس أقل من البلدان الأخرى، صار الطالب الفنلندي هو الأقل قلقًا، كما أنَّ المدرسة الفنلندية تفوقت عالميًّا خلال سنوات قليلة أيضًاً.
الجرثومة الرابعة هي الدراسة المنزلية وحل الواجبات وعمل الأنشطة في البيت، حيثُ ترى فنلندا أنَّ للطالب الحق في الاستمتاع بوقته خارج وقت المدرسة، ولا يجب الاستحواذ عليه، وأن له الحق في قضاء أوقاتٍ مع أسرته بدلا من تمضيةِ الوقت في حلِّ الواجبات والأنشطة مما يتسبِّب في عزل الطالب اجتماعيًا وعاطفياً عن أجواء الأسرة، ولهذا عواقبه النفسية والعاطفية على الطالب. لذلك فإنّه لا بد أن يمنحَ كلَّ جانب من جوانب الحياة حقَّهُ من الاهتمام والرعاية والعناية حتى ينشأ الطالب متوازناً في شخصيته.
الجرثومة الخامسة هي الدروس الخصوصية، إذ أنّ وجود الدروس الخصوصية لها عدَّة تفسيراتٌ مختلفة أو متحدة وهي إمَّا لأن الطالب لا ينال حقَّهُ في الفصل الدراسي بسبب كثرة الطلابِ، أو عمق المعلومات وتفاوت الذكاءات، أو لأنَّه لا يركِّزُ الانتباهَ في شرحِ المعلِّم اتكاءً على الدروس الخصوصية، أو لأنّ المعلم لا يبذل الجهدَ المتوقع لإيصال المعلومة حتى يترك مساحة للاستفادة الشخصية من الدروس الخصوصية..! لهذا تتضاعف أوقات الدراسة على الطالب فيصبح كل يومه دروساً في دروس، يأتي من المدرسة مرهقا، ثم ينضمُّ لقافلةِ الدروس الخصوصية وهذا ما يسبب له الإرهاق الجسدي والذهني..! بيد أنَّ السبب يعود في نهايته إلى النظام التعليمي الشائع.
هناك أيضًا جرثومة سادسة وهي المواد المعقدة التي لا ينتفع منها الطالب لأنّها لا تنفعه في واقعه أو في ميوله واتجاهاته، وهي ما يطلقُ عليها الأب الروحي للتعليم الفنلندي الدكتور "باسيسالبرغ" وصف "المعرفة المعزولة"، ويعني بالمعرفة المعزلة هي المعلومات التفصيلية التي لا يتداولها إلاَّ أهل التخصص الدقيق. ومن المؤسف أنّ هذه المواد مغرقةٌ بالتفاصيل المسهبة التي لا يحتاج لها الطالب في دراسته فهي تضيع وقته، وقدراته في ما لا طائل ولا فائدة من ورائه..
هذه جراثيم تخلصت منها فنلندا فتصدَّرت العالم في قائمة أفضل الأنظمة التعليمية وحازَ طلابها المراكز المرموقة عالمياً، وتسابقت الدول لتحظى بالاستفادة من تجربة التعليم الفنلندي.. فهل سنتخلَّصُ نحن أيضاً من هذه الجراثيم بعد تجربة فنلندا الناجحة؟!