دراسة نقدية لـ"انغماسية" الشاعر "عمر هزاع"


د. ابتهال الغزي الفضلي | العراق
لا يخفى عن أبسط النقاد أن من أعظم سيماء الشاعر المبدع هي قدرته في إنتاج دلالات تجريبية مغايرة تكسر أفق التوقع عند المتلقي وأخرى متحولة بذات الفلسفة ولكن لأغراض أخرى وبوصفي باحثة تبحث عن الغرابة دائما في تحليلاتها الأدبية وقراءتها النقدية حط رحالي عند الاستفهام أعلاه ماعلاقة داعش بعمر هزاع والجماعات المتطرفة؟
لا يخفى على الشارع الأدبي أن الشاعر المذكور أعلاه شاعر سوري ينتج التجريب الشعري ويصنع فلسفة الصورة بطرفة عين متكئٌ على مرجعيات عظيمة في مجال فلسفة الشعر فمن الطبيعي أن تحضر مفردات المرحلة المأساوية لبلده التي عاصرها في معجمه الشعري لكن من غير العادي أن ينجح شاعر في تحويل فلسفة الإرهاب الجسدي من إرهاب الحرب إلى إرهاب الحب وهذا ماقادتني نحوه قصيدته ((انغماسية))!!
وأصل هذا المقال عائدٌ إلى عنوان القصيدة وما تداعى بعده من دلالات تجري في سياقه فالانغماسية تعني: أن ينغمس في العدو ويدخل في عمقه وهي معروفة في التراث فقد خاضها البراء بن مالك في حديقة الموت إذ فتك بأعدائه حين مواجهة أتباع مسيلمة الكذاب وقد أخذت الجماعات المتطرفة داعش وما قبلها هذة الدلالة لتطلقها على القوة الضاربة من مقاتليها وهي بالأغلب قوة تباغت وتنتحر في أهدافها مختلطة بهم ومن دلالاتها أيضا الإيقاع بعد هدوء أي التسلل والخوض أو حمل الواحد على العدو بالنتيجة فأصل الانغماسية محكيٌ لساني ديني حربي بمدلوله العام أما مقصوده فمختلف بين شرعية القضية وأحقيتها وانتفاء ذلك وهذا ليس موضع بحثنا بل مايعنينا التحول الذي أجراه الشاعر قي مفهوم الإنغماسية.
الآن لنستعرض النص:
***
انغماسِيَّة...
*
فَلتُوقِدِي شَفَتَيكِ
مِثلَ الرَّاجِمَةْ!
وَلتَقدَحِينِي...
يا فَتاتِي الحالِمَةْ...
*
وَلتُطعِمِي لِلنَّارِ قُربانًا
- دَمًا -
فَالنَّارُ
- مُذ رَاوَدتِنِيها -
صائِمَةْ!
*
طالَ انغِماسُكِ
- فِي خَلايايَ -
اظهَرِي لِلنُّورِ...
تَبًّا...
لِلخَلايا النَّائِمَةْ!
*
لَن تَدخُلِي الفِردَوسَ
- دُونَ شَهادَةٍ -
أَو تَربَحِي حَربًا...
وَكُلُّكِ سالِمَةْ...
***
في مطلع القصيدة استعمل الشاعر تعبيرا لغويا يدل على أعلى درجات الشوق وأكبر مقدمات الشبق (فلتوقدي شفتيك مثل الراجمة) وهنا دلالة واضحة على السياق التنفيذي لآلة الرجم في الحرب صمت ثم انطلاق مفاجئ فدوي وهذا المفهوم يقارب دلالة الإنغماس الذي معنى من معانيه مباغتة العدو والخوض بعمقه والإنفجار فيه (ولتقدحيني يافتاتي الحالمة) إذ استمر الشاعر في معجم الدلالة الحربي وقوته ، ثم كسره في مابعد في صفة (الحلم) وهي أعلى درجات الثورية والسكون معا فالحلم مقدمة كبيرة لمجازفات تحقيقه وبهذا العرض الدلالي المتضاد في المفردات والمتسق في السياق تمكن الشاعر من تصوير حالة تواصل مثالية بين عاشقين مجترا تكوينها من ثورية الإيقاد وسكون الحلم وأكد هذه الدلالة بقوله:

وَلتُطعِمِي لِلنَّارِ قُربانًا
- دَمًا -
فَالنَّارُ
- مُذ رَاوَدتِنِيها -
صائمة
إذ جمع بين سكون الصيام وهيجان النار وفلسفة الدم فالصورة التجريبية (لصيام النار) يعني استحالة تأثيرها أو إيقادها بعد هجوم شفتيك الحارقة وهنا تتجد دلالة الإنتحار في الحب

طالَ انغِماسُكِ
- فِي خَلايايَ -
اظهَرِي لِلنُّورِ...
تَبًّا...
لِلخَلايا النَّائِمَةْ!
*
لَن تَدخُلِي الفِردَوسَ
- دُونَ شَهادَةٍ -
أَو تَربَحِي حَربًا...
وَكُلُّكِ سالِمَةْ
ينتقل الشاعر عبر النص أعلاه من فلسفة الرغبة والحلم لفلسفة الواقع، منتفضا مستعينا بدلالة الإنغماس اللغوية إذ تعني الغطس أو الخلط أو التماهي فبعد سيل من دلالات العنف الجسدي في الحب يتذمر بقوله تبا (للخلايا النائمة) ثم يقدم مفارقة دلالية كبيرة عبر قوله (لن تدخلي الفردوس دون شهادة ٍ أو تَرتَجي حَرباً وأنت سالمة).
وهذه مفارقات كثيرة ومتكررة مجترة من قوله تعالى ( لن تنالوا البِر حتى تنفقوا) و في رواية عن الجاحظ: رأيت جارية بسوق النخاسين ببغداد ينادي عليها وعلى خدها خال فدعوت بها وجعلت أقلبها فقلت: لها ما اسمك؟ قالت مكة. فقلت: الله أكبر قَـرُب الحج أتأذنين أقبل الحجر الأسود؟ قالت له: إليك عني ألم تسمع قول الله تعالى لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ما يلزمنا الوقوف عنده في النص هو محاكاة العنوان (انغماسية) لمفردات النص مثل: توقدي : لفظ حربي ديني كما جاء في سورة المائدة (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ)، و"راودتنيها": ديني فيه دلالة الاقتحام ماجاء في سورة يوسف (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) والفردوس والشهادة وهي نتيجة لسبب واضحة جدا في العقيدة الإسلامية
ويتضح من العرض أعلاه أن إنتاج الدلالة في محكيات عمر هزاع الشعرية يجتر نجاحها من صنعة التحويل الدلالي الواقعي لما عاصره الشاعر من سياقات الحرب وإرهاب الجسد من ثم موت النفس وإلغاء فلسفتها الوجودية وكينونتها بدواعي العقيدة الإسلامية إلى سياق فلسفة لذة العنف التي تحيي الجسد وتعمر القلب وتدب فيه السعادة فهذه انغماسية العشق وهذا ما قصده شاعرها.. إنها فلسفة الشعر وصورة الفلسفة.

 

تعليق عبر الفيس بوك