من مذكراتِ مسؤولٍ "رفيعٍ" سابق

 

مسعود الحمداني

 

منذ أن استلمتُ أنا المواطن البسيط (سابقا) كرسيّا في الوزارة وأنا حفيظ عليه، سهرتُ ليل نهار كي أحظى بشرف (المسؤولية)، عملتُ في كل الأعمال الممكنة وغير الممكنة، جالستُ كبار المسؤولين، ورأيتُ كيف يتصرفون، وكيف يتكلمون، وكيف يأكلون، وكيف يقتسمون الكعك المُحلّى، وكيف يحوّلون الأفكار الوهميّة إلى صفقات كبيرة ثم يبيعونها للشعب.

رأيتهم كيف يأخذون معهم حين يغادرون المؤسسة ما خف حمله، وغلا ثمنه، ثم يشترون الجُزر والمنتجعات في الخارج ويقضون ألف ليلة هناك في الجزيرة، وليلة هنا في الوطن درءا للعين، وخوفا من الحسد، رأيتُ كل ذلك، وعشته وعايشته، حتى قام أحد الكبار بتعييني (مسؤولا رفيعا)، صحيح أنني لا أمتلك مؤهلات المنصب، فذكائي محدود، ومؤهلاتي الشخصية بسيطة، وليس لديّ خبرة إدارية كافية، ولكني أمتلك ما هو أهم من كل ذلك وهو الولاء المطلق للكبار، لذا أنا في الوزارة منذ ثلاثين سنة ونصف وأربعة أيام وثلاث ساعات..

طرحتُ الكثير من المشاريع التي نجح وفشل بعضها، والعديد من الخدمات، واقتسمت بعض (الأتعاب) مع بعض التجار والمستثمرين وذلك جزء من عملي، وها أنا ذا أعوم على بحيرة من المال، لا أسمّي ذلك فسادا ولكنّه نصيبي من (الذبيحة) التي سيجنيها هؤلاء الوافدين من ثروة بلدي، وهي تقدّر بالملايين، في مقابل أن أسمح لهم باستخدام اسمي (التجاري) للحصول على تسهيلات مالية ومعنوية لدى أصدقائي المسؤولين، وكل شيء بثمنه.

بالأمس حصلتُ على قطعة أرض جديدة ضمن ثروتي (الترابية) وهي أصغر بعشرين ضعف عن سابقتها، حيث بلغت هذه الأخيرة خمسين ألف متر فقط لا غير، تخيّلوا هذه المساحة البسيطة التي لا تساوي جهدي وتعبي الوطني، ولكن ـ ولأني متفائل ـ فأظن القادمات أفضل، ولأني قنوع ولا أكترث بالمساحات وهبتها لأحد أبنائي، الذي أتوسّم فيه الخير، لأن يصبح ذات يوم وريثي في المنصب، رغم أنّه ليس لديه ميولٌ وظيفية، ولكنه يملك نفس الكاريزما التي أتمتع بها، لذلك لن يصعب عليه شق طريقه وسط غابة من المؤهلين لمنصب (مسؤول) بنفس مواصفاته.

بعد كل هذه السنوات في خدمة (الكرسيّ) ها أنا أخرج من الوظيفة مرفوع الرأس رغم اتهامي بالسرقة، ولكن المحكمة برأتني لعدم كفاية الأدلة، وهذا دليل على أنني أشرف من الشرف، وأغلى من الألماس، فالدولة ستخسر خدماتي، وسأستثمر الملايين التي حصلتُ عليها أثناء الخدمة في مشاريعي الخاصة والتي تتركز في آسيا وأوربا، فبيئة الاستثمار في هذا البلد لا تشجع المستثمرين، لقد جرّبتها أكثر من مرة، رغم أنني أشيد بها أمام الملأ بحكم عملي الحكومي، لذا عليّ توجيه أموالي إلى الخارج، ومن خلال شبكة علاقاتي التي كوّنتها ـ حين كنت على رأس الكرسي ـ سأبدأ حياتي من جديد.

غدا سأشد الرحال إلى منفاي الاختياري، بعد أن قمتُ ببيع كل ممتلكاتي في هذه البلاد التي لا تقدّر الكفاءات، ونقلتُ أولادي إلى مدارس إحدى الدول الأوربية، وصفّيت شركاتي التي كنت أديرها بأسماء أقاربي حتى لا يتعارض منصبي الوظيفي مع قانون تضارب المصالح، غدا ستشرق الشمس على فصل جديد من عمري، بعيدا عن ضغوطات العمل، وصراخ المسؤول الأكبر علي، والتصريحات التي لا أجني من وراءها غير صداع الرأس، غدا سأجني ما زرعته طوال سنين، وأنتم ـ أيها الحاقدون ـ اكتبوا عنّي ما تشاءون، فما تكتبونه اليوم، قد يدينكم أنتم غدا، انتبهوا لذلك، فالقانون لا يحمي المغفّلين.