جمال شاطئ السيب يشوهه المخالفون

حمد العلوي

لقد ساقني حبُّ الاستطلاع لأن أزور الشارع البحري بالسيب؛ فوقفت مقابل جامع السيدة فاطمة بنت علي بانتظار أن تحل صلاة المغرب؛ فقُلت أمتِّع ناظريْ بذلك المنظر الخلاب المُطل على بحر عُمان، في منظر عبقري رائع الجمال؛ فتركتُ نظري يرتع في الأفق اللا متناهي، فلولا ضَعف البصر، وكروية الأرض، لكِدتُ أرى الشاطئ الشرقي لبحر عُمان من جودة ونقاء المنظر، وقد ذهبَ بي خيالي إلى زمن الستينيات من القرن الماضي؛ فيومذاك وقفتُ على سييف شاطئ صحم ليهول نظري، وأنا الصَّبي اليافع الذي تتكحَّل عينه برؤية البحر لأول مرة في حياته؛ فيومها كُنت برفقة والدي -رحمه الله- للتسوق بسوق صحم؛ كونه السوق الأقرب إلى قريتنا الجبلية؛ حيث كُنا نقطع الطريق في يوميْن بلياليهما، ثم يوم للتسوق، ثم العودة بيومين كذلك. أما اليوم، فقد اختزلنا تلك الخمسة أيام بلياليها إلى ساعة ونصف الساعة تقريبا، هذا من فضل النهضة العُمانية المباركة علينا.

فيومها شعرتُ برهبة كبيرة من هَول ذلك البحر، الذي كان غاضباً على ما يبدو من برد الشتاء؛ فكنتُ أرى الأمواجَ تأتي غاضبة، والزبد الأبيض يتكسر على سييف البحر؛ فكُلما تكسَّرت موجة تلحقها العشرات، فأخذتُ أقترب من ماء البحر بحرص شديد، علَّني أضرب صحبة معه، فيحملني يوماً على ذات ألواح ودُسر، كما كان يفعل من كانوا أكبر مني سنًّا، فتأخذهم إلى إفريقيا أو حتى دول الخليج؛ فكان قد ترسخ في ذهني الغض الطريِّ، أنَّ في الغربة والسفر فوائد جمَّة، لا تتوقف على الفوائد التي سبق ذكرها؛ لأنها لم تذكر النمو الجسماني السريع كواحدة من تلك الفوائد، وربما لم يكن نموًّا غير عادي، ولكنَّ انقطاع الصبي عن أهله أربع سنوات أو أكثر يجعلُه يعود وقد شبَّ عن طوقه، وزادتْ ضخامة جسمه عن يوم سفره، وهنا يكمُن تفسير تلك المفاجأة؛ فالتواصل كان عبر الرسائل الورقية، فتذهبُ مع القاصد لعدم وجود بريد، والتصوير كان يُعد من الترف الذي لا لزوم له، في حين لم نشعر بفارق النمو مع الذين نعيش بينهم.

فقد أخذتني إذن أحلام اليقظة إلى بندر صحم وشاطئها الجميل؛ ذلك التشابه في المشهد، الذي ما زال يتكرر بنفس الطريقة؛ فعندما يُعانق البحر الساحل في ولاية السيب وقت الغروب، تجد أمواجَه تتكسر على سييف البحر، وكأنَّ البحر لا يتطور أسلوبه كأسلوب البشر المتطور وفق المحيط والبيئة، وهنا أشعر بتحقق المقولة التي يلجأ إليها الإنسان للتعبير عن المتشابهات، فيقولون: "الشيء بالشيء يذكر"، فتذكُّري للصورة المرتسمة في قاعدة معلوماتي العميقة، التي استدعاها العقل الباطن من أعماق الذاكرة البعيدة إلى واقع الحال، بمجرد أن حدث التشابه أمامه، ولكن قطع هذا التأمل من الشريط المستدعَى، هديرُ صَوْت درَّاجة من دراجات الإزعاج والعبث والخطر، وتساءلتُ بيني وبين نفسي: هل يُعقل أن يكون بيننا أناسٌ بلا ذوق أو حياء أو حتى خجل؟! فمن المشهد السَّمج الذي رأيته على هذا الساحل، أنَّ بعض الناس بلا دم فعلاً، وإلا كيف تسمح لنفسك أيها العابث بسَكِينة الناس، أن تسعدها بإيذائك للآخرين، الوادعين هم وأطفالهم في شأنهم الخاص؟!

فعلى هذه الشاطئ الأنيس الجميل، والآخذ في التشكُّل، كمشهدٍ بانوراميٍّ بديع، ليس فقط بين السييف والبحر، وإنما مجاميع الناس التي حضرتْ لتخلق جمالَ المشهد، فتراهم بين ماشٍ للرياضة، ولاعب لكرة السلة أو كرة القدم، أو تجمُّعات عائلية افترشت الأرض مع أطفالها على حصير يحميها من الرمل، أو مسترزقٍ من وراء بيع المشاكيك، فيمرُّ أولئك الذين يستخدمون الدراجات المزعجة بأصواتها الغربانية -نسبة إلى نعيق الغراب- أو سيارات تجاهلتْ كلَّ أسس السلامة وقواعد وآداب المرور، فتخوض بين المجاميع البشرية، دون أي اعتبار لمشاعر الناس أو الخطر المُهدِّد لهم بالدهس، فشعرتُ بالحزن والأسى والمرارة أن يكون هناك بعض قلة من الناس يعدون أنفسهم فوق النظام، وتمنيتُ لو لم تكن هناك لوحات وضعتها البلدية، تمنع مرور السيارات، والدرَّاجات والكلاب، لكُنت قد عذرت من ليس فيه حياء ليستحِي من الناس، أن يمر بينهم راكباً سيارته أو دراجته، والناس بين جالس وماشٍ ولاعبٍ؛ فعرفتُ أن درجة الشعور بالقيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية، أصبحت في تنافس باتجاه الأسفل للأسف الشديد.

إنَّ شاطئ السيب الجميل يُمكنه أن يكون نظيراً لشواطئ فيينا؛ فولاية السيب تنعمُ بكثافة سكانية، وكونها واحدة من مدن العاصمة "مسقط"، فهي نشطة تجاريًّا واقتصاديًّا، فلِمَ لا نجعلها واحدة من الوجهات السياحية الجاذبة للاستثمار؟ فعلى سبيل المثال: ساحلها البديع الذي يمتد لمسافة تزيد على 15 كيلومتراً، يُعطَى بعقد استثمار لواحدة من الشركات العُمانية أو حتى الأجنبية، ولمدة عشرين عاماً مثلا؛ فتنشئ عليه شاليهات وفنادق سياحية، وتربطها برحلات بحرية، خاصة في فترة الشتاء؛ حيث يهرب الأوروبيون والروس من الشتاء القارس هناك، وعُمان ليست فقط بيئة شتوية دافئة، وإنما أمان واحترام وسُمعة طيبة لشعب خلوق، ولكنْ حذارٍ من التواضع الشديد الذي قد يُذهب بهُويتنا العُمانية؛ فنحن -وبسبب المغالاة في التواضع- نجد أنفسنا نتنازل عن الكثير من القيم والعادات، وهذا الذي لا يجوز مطلقاً.

وأنْ يُشترط أيضًا على الشركة المستثمرة، ألا تقضي على تجار المشاكيك، ولكن لا ضَرَر من التنظيم والتنويع، وأنْ يُضاف إلى المشاكيك شيّ السمك الطازج كذلك، وأن تستحدث مقاهٍ ومطاعم، ولكن ألا تكون الشيشة من ضِمنها، وإلا قَضَينا على الشاطئ وجماله، وحكمنا عليه بالدمار المبكر، وأن تكون هناك شاليهات بأحجام مختلفة، تصلح لجميع العوائل، وأن تكون بخدماتها الضرورية، مع جعلها صالحة للمبيت أيضاً لمن يرغب.

ولكنْ إذا كانت الناس ستظل تتنافس في سُوء الخُلُق والسُّلوك، فلا بد من وضع معيار تقيمه الدولة، ولا تكتفي بإعلانه وحسب، وإنَّما تشرف عليه وتحفظه، ليس بالتثبيت على اللوحات أو على الورق، بل تحفظه في واقع الحال؛ وذلك لتحفظ المجتمع من تردِّي ضوابطه الاجتماعية والسلوكية، مِصْدَاقاً لقول الشاعر: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"، وبذلك نَتَدارك ما بَقِي لنا من خُلق، فنُنعش عناصره بحفظه من الزوال، وإلا كَيْف تكون هناك أوامر وتعليمات لا يتم التقيُّد بها، فهل يترك الناس وشأنهم يتجاوزون الحدود إلى الفوضى؟! أمَا عَلِمنا أنَّ الذي يذهب من يَدِك اليوم لا يعود إليك بالغد، كما كان بالأمس، فقط البحر الذي عَرفنَاه ظلَّ كما كان دُوْن أن يتغيَّر.

والبلدية لكي تحفظ جهودها من الذهاب هباءً منثُوراً، عليها أنْ تَضَع الأنظمة والقوانين والعقوبات الرادعة، وأنْ تستعين بمَن استعانتْ بهم لرصد مواقف السيارات، وإعطاء المخالفات الغيابية، وعليها أن تكُون أكثر جُرأة في حماية الشواطئ من عَبَث العابثين، وأن تمنع تخريب الشواطئ والحدائق العامة؛ فوقتذاك سيعرف مَنْ ظن أنه فوق النظام، أنْ لا أحدَ في عُمان من البشر فوق النظام، وهكذا سيتَعاون الناس رغبةً ورهبةً في احترام النظام والتقيُّد به.