العباسة تنثر الشعر فرادى:

قراءة في العباسة 12 للشاعر محمود حسن



عمارة إبراهيم | شاعر وناقد مصري
اللغة هي المالك الأصيل للموسيقى ، إيقاعها منتج من أحوال أفعالها، وما قام به الفراهيدي هو ترتيب لحروفها ترتيبا حسابيا لا يتوافق مع أحوال الكتابة الشعرية بحسب منتجها الحالي بل الذهنية هي البطل الحقيقي في ما تقوم به من ترتيب الحروف لنظم الشعر ذات الإيقاع الخليلي المنتظم في دوائر عروضية تمنح موسيقاها حسب صفاء تلك الذهنية التي تتباعد عن أحوال الكتابة الحقيقية التي تعتمد علي إيقاع اللغة حسب تطور أفعالها وتواتر أحوالها في ظرفها الزماني والمكاني.
وحتي يخرج الشعراء الحقيقيون من هذه المعضلة التي تعوق حركة الفعل وشعريته في دفقاته التي ترسم ايقاعاتها من نفس إيقاع اللغة، لكن باستدعاءاتها حسب حركية الفعل لا بنظام الذهنية الخليلية التي تسعي لإنتاج موسيقى ذات إيقاع حسابي علي حساب أحوال الكتابة الشعرية التي تتحقق إيقاعاتها من فضاءات النص ولغة خيال المبدع وتطور بناء كتابته.
حتي مال الشاعر الحقيقي إلي حفظ عدد كبير من الأبيات المنظومة علي إيقاع الخليل، حتي يتعايش مع أحوال هذا الإيقاع ليدخل في مخازن عقله ليشق بنية أحوال نصه دون اللجوء إلي القاموس والبحر الشعري الذي يرغب نظم قصيدته ، ويحول الشعرية إلي ثابت من دون روح،كما أن الخبرة التي يمتلكها الشاعر الحقيقي ستزيد من كونية الحال وتدفق شرايين الكتابة في اتساعها المتفرد، ليتحقق لنا عمل شعري يتوافق مع التطور الزمني والمكاني بتطور بنيته وقاموسه،  مع منح الشاعر فضاءات النحت في اللغة لإبداع النص الشعري المتفوق،كما يقدم الإيقاع الخاص بحركية الأفعال التي تستفيد من إيقاعات تشكيلات اللغة في بناء حال مستجد.
ولو نظرنا تأكيدا إلي الإيقاع الذي تفرد به الكتاب المقدس وهو القرآن الكريم لوجدنا أن بينة القول الفصل في آياته وقد تحقق منها إيقاع متحرك بتحرك أحوال آياته البينات وهي لا تعتمد علي تكرار الحروف في ساكنها ومتحركها لإشباع النص القرآني بإيقاع حسابي، بل كانت آياته البينات المحكمات  تنتج ايقاعاتها  من إيقاع أحوال مانصت عليه،وكان من الأولي أن يعتمد القرآن  علي إيقاعات الحروف في تنظيم دوائر إيقاعية محكمة،تجعل القارئ أو المجود له أن يغنيها أو  يطرب الناس من قراءته،وهذا ما لم يقره الكتاب أو الكتب السماوية الأخري.
والشاعر الخليلي هنا يكتب نظمه بآلية تقوم علي ترتيب ذهنيته مع ترتيب مصادره من كتب الإيقاع الخليلي أو القواميس التي يرتب منها نظمه،ليكون تركيزه الحقيقي في ترتيب حدود موسيقاه التي أنتجها من إيقاع اللغة نفسها،ولم ينتبه كيف يكتب أو لمن ؟ ليترك حال اللغة و أفعالها إلي العنوان الذي قام باختياره وطنيا أو رومانسيا أو غير ذلك من التجهيزات الإنشائية بنفس الآلية التي رتب بها الحروف كي ينتج موسيقا ساكنة لا روح فيها ولا ابتكار.
العباسة تنثر الألم شعرا
--------------
كانت هذه المقدمة هي الأساس  الذي فرضته علي قراءتي  للعباسة 12  للشاعر المصري محمود حسن، وقت أن بدأت في التحليق في سمائها  حتي تعايشت مع أحوالها  في ليلتي التي لم أنم فيها بسبب إصرارها علي أن تكتبني مثلما كتبت الشاعر، وربما كانت بنفس الدفقة الشعرية التي رسمت لي بيان أحوالها في صيغة نثرية ارتكنت علي مسار رؤية قراءة لها.
وكان إيقاعها هو المدخل الرئيس حيث تواتر الأفعال وتدفق وسلاسة وبساطة اللغة التي تحقق منها إلياذة شعرية بدرجة متفوقة.
يقول الشاعر:
مبتسما كان فمي
أم كان حزينا
يا هارون ومندهشا؟
حين أتي السياف به في قصركْ
مذ غادرنا رأسي
وأنا أستودعه حجركْ
كانت هذه السطور مفتتحا أو كانت مدخل القصيدة،وعند البدء في قراءتي لها جذبني إيقاعها الدرامي الذي تعايشت معه وكأنه إيقاع جنائزي أجبر الشاعر علي التوغل في رسم مشاهد تري بالأذن حسب تعبير الناقد الكبير هشام المنياوي، وببساطة متفوقة في دلالتها للغة التي رسم بها فضاءات شعريته وخاصة وهي ترسم صورة جعفر المذبوح وهو يخاطب أو يعاتب شقيق رضاعته هارون الحاكم،بلغة دامية في إنسانيتها وكأن الشاعر أراد أن يجعل قارئه مشاركا في تهمة ذبح هارون لجعفر لكونه منح الحاكم ما لم يكون له في استحقاقات إدارة الدولة.
ويستكمل الشاعر
ستراني في باحات القصر  وفي كل مجالس أنسكْ
في جدك أو هزلكْ
عند السطوة جبارا أو في زهدك
ستراني خلفك حين تؤم الناس، تمر أمام الجند...
ويغلبك بكاء الصاحب
حين تعاتب أمي أمك
ويستمر الشاعر في إيلامنا قبل إيلام التاريخ، يرسم مشاهد إنسانية بارعة في صور درامية تغلب عليها بساطة اللغة حسب استدعاءاتها الضرورية لتتوافق مع أنساق الحدث الإنساني الذي تناغم مع أنساق اللغة وإيقاعها بحسب الدفقة الشعرية التي أنتجت إيقاعها الخليلي لترتوي الحالة الشعرية بإيقاع متداخل ومتناسق في دفقته،يحسه ويتأمله القارئ والمتلقي بنفس الدرجة والتناسق علي خلاف الكتابة الشعرية التي تحتاج إلي ممثل إلقاء يرمي بإيقاع صوته عوضا عن غياب إيقاع الحال.

يقول محمود حسن:

تذبحني؟ لم أرو قبيل الذبح العطشا
ما أحسنت الذبح وما أحسنت وداعي
ما يشغلني الآن بظلمة سيفك
كيف تحول قلبك حتي
لم يغفر خطأ يمكن أن يغفر؟
يأخذ ضمير المتكلم مساره المعتاد محلقا في فضاء الألم فوق الأرض العربية،مخاطبا جمهوره في وتدية العباسة التأريخ ليستنزف ما تبقي من دمنا عبر تاريخنا النضالي الكبير في هدر الدم لعدونا الأول وهو "الأنا "، وكأن لا عدو لنا غيرنا، ولا دم رخيص غير دمنا، ولا مساحة أحزان يملكها قلب غير قلوبنا، وأرضنا .
لتنفجر شرايين الأرض وجعا سطرته العباسة في مجري شعري بديع، لملم بموسيقاه التي تتناسب تماما مع جنائزية الحال في أغوار اللغة المستخدمة كي نتعاطي لحظة تمثل مكان وزمانية إلياذة العباسة كما هي تمثل  أحوالنا الدموية التي لا تنتهي حتي وقتنا هذا،وقد بينها الشاعر في إسقاطات شعرية متعددة هنا داخل النص ، في بناء شعري رفيع رغم بساطة اللغة الشديدة وهي المستدعاة.
يسطرها الشاعر في تنوع ألعابه وخدعه  في البناء،مثل تقديم الخبر، أو المفعول عن الفعل، او تنوع مشاهد الحدث بتنوع حشود الصور. التي ألقت لجامها لقائد النص يروي بلغة السرد التي تفوقت بدراميتها وتنوع أنواع وآليات السرد عبر النص من بدايته وحتي نهايته مستفيدا من خبراته وموهبته في سياق شعري إنساني، ربما تستعيد منه أجيالنا القادمة الذهنية المسلوبة من ثقافة الدم التي تفحلت في كيان الحاكم العربي كي يؤسسوا في مساحات الأرض المنكوبة حياة مغايرة تمحو ثقافتنا وتراثنا الذي تحجر من دم العروبة الذي لم يتوقف.
اختتم بمقطع بديع راق للعباسة حتي تنهي به وجع الأمة

كنا سادة هذي الأرض ملوكا
ملكا يفني الراكب كي يبلغ آخره عمره
كنا الدولة والساسة والديوان الورقيا
أو لسنا سلمان الباحث عن ربه
وبلالا
وصهيبا
وكتابا عمريا
كنا كسري
ودخلنا في عقد الدولة والدستور العربي
فأنا
أنت
ونحن
وهم
هن
جميعا يا هارون مواطن
لا فرق الآن. ... ولا عربي أو عجمي.

 

تعليق عبر الفيس بوك