3 مسامير تكفي لهدم المؤسسية

د. سيف المعمري

لا نُريد أن نُعاود الحديث عن المؤسسات والواقع الذي تمر به، لكن طالما بعض قادة المؤسسات يصرون على أن يعيشوا مرحلة غير المرحلة التي تعيشها البلد، والتي تحرص على أن تحكمها المؤسسية بكل ما تشمله من معان؛ لا تخفى على أحد إلا على من يرأسها، تبدو فكرة المؤسسية غير مفهومة لدى صناع القرار لدينا، وإلا ما ظهرت هذه الأمراض الكثيرة التي تمر بها المؤسسات؛ لأن المؤسسية تعني العمل بروح الفريق، وتوزيع العمل، واتخاذ القرارات عن طريق مجالس بطريقة ديمقراطية، والاستناد إلى الخبرة والكفاءة والصالح المشترك، والتقيد باللوائح، والمضي وفقها في أي شأن من شؤون المؤسسة بُغية تحقيق الأهداف التي تسعى إليها، والتي يتطلع إليها المجتمع منها، وإظهار الشفافية، والبعد عن التحزب والشللية والشخصنة التي تجهض مشروع المؤسسية، وتضيع النهوض بالمؤسسة لكي تتماشى مع الرؤى الطموحة للبلد، والتي تمَّ تأطيرها في مرجعيات كثيرة، آخرها برنامج "تنفيذ" ورؤية "عُمان 2040".

لكنَّني أقولها هنا -للأسف- إنَّ الفجوة مع فكرة المؤسساتية تتسع وتشوَّه بشكل منهجي يستدعي من الجميع الوقوف بحزم سواء كنا كُتَّابا أو مؤسسات حكومية عُليا معنية بالرقابة والتخطيط، وأود أن ألفت النظر هنا إلى ثلاثة مسامير تدق بشكل يومي في بعض المؤسسات لكي تجهض فكرة المؤسسية، خاصة في مؤسسات يفترض أن تقدم نفسها كنموذج يمكن أن يُحذى حذوه من قبل بعض المؤسسات، لكن حين يسيطر على العقول النزعة إلى الفردانية والرغبة في ممارسة التسلط، لا تعود ترى شيئًا من الأشياء الخطيرة جدا التي تقوم بها.

يتمثَّل المسار الأول في الانتقائية السلبية، والتي تتمثل في انتقاء العمل الفردي على حساب العمل الجماعي؛ حيث يقوم متخذ القرار بتنفيذ العمل من خلال مجموعة محددة من الأشخاص، بدلا من أن ينفذ من خلال مجموعة من الفرق واللجان التخصصية التي تستطيع أن تقدم عملا ممنهجا، وعلى قدر كبير من الكفاءة، والسبب الذي يدفع متخذ القرار إلى البُعد عن الجماعة رغم أنها من أهم الأعمدة التي تستند إليها فكرة المؤسسية؛ هو: عدم رغبته في إطلاع من لديه في المؤسسة على ما يعُده أسرارًا من أسرار العمل، أو تهميشهم حتى لا يظهر أحد منهم ويكون لديه رأي يخالف توجه متخذ القرار؛ وبالتالي نحن أمام انتقائية تشل العمل، وتختزل المؤسسة وتحشرها في زاوية ضيقة، تجعلها غير قادرة على اتخاذ القرارات من خلال مرجعيات جماعية، إنما من خلال مرجعيات فردية يستمر الرجوع إليها باستمرار في أي قضية تواجه المؤسسة.

أمَّا المسمار الثاني، فيَكمُن في شخصنة المؤسسة، وتحويل المختلفين مع متخذ القرار، أو المقاومين لاستفراده بالمؤسسة، إلى أعداء غير مرغوب فيهم في أي عمل لا يستطع غيرهم إنجازه بحكم خبرتهم وعمق تجربتهم؛ وبالتالي يلجأ متخذ القرار إلى تحويل الأعمال إلى أفراد آخرين ليس لديهم الخبرة الكافية، ولا الحماس والانتماء للمؤسسة؛ وبالتالي يقسِّم متخذ القرار مؤسسته إلى جماعات مُتصارعة، ويعمل على تغذية الحقد فيما بينها، ويُنشئ نظاما خاصا به يُبث في مختلف أرجاء المؤسسة: في لجانها، وإدراتها، بل ويعمد إلى تشويه من يعدهم خصوما له بالتقليل من شأنهم وكفاءتهم، وفي حالة وجود قطاع من الموظفين غير المواطنين يعمد إلى الاستناد إليهم أكثر؛ تأكيدا على عدم الثقة في أبناء وطنه، والسبب في ذلك لا يكون دائما منبعه الاختلاف الفكري والإداري، وإنما أحيانا الغيرة، وهذه تكون طامة كبرى لأنه حين يوضع متخذ قرار غيور على رأس مؤسسة، يكون على استعداد أن يقوم بأي شيء في سبيل التنفيس عن الغيرة التي تشتعل بداخله من بعض الأشخاص، وهنا نحذر من هذه الظاهرة التي تتفاقم، لا تضعوا أي متخذ قرار إلا بعد أن تجروا عليه اختبارات نفسية؛ لأنَّه حين تجتمع الغيرة والتسلط الإداري في شخصية متخذ القرار، فإن المؤسسة تعاني الكثير.

في حين يظهر المسمار الثالث -وهذا الأخطر- في عمل لُوبي توارثي داخل الوحدة الإدارية، يمتد إلى الوحدة الأكبر فيها، يعمل هؤلاء جميعا على اعتقال المؤسسة نفسها إلى العديد من السنوات وتداول إداراتها بينهم؛ حيث يكرس هؤلاء حالة الواقع المتأزم، ويجعلون من أنفسهم مرجعية غير معلنة للمؤسسة، يحركون فيها ما يخدم صالحهم فقط، ويورثون أدوارهم إلى الفئة التي استخدموها في فترة إداراتهم، شريطة أن تعلي من شأنهم وتجعل منهم "مرجعية أساسية"، لا يُتخذ قرار دون مشورتها، لا أحد يفهم العقلية التي تجعلهم يصرون على التشويش على المؤسسة حتى وهم خارجها، حتى وهم بعيدون عنها، ألا يُمثل هذا نزعة عدوانية تستحق الدراسة بعمق من قبل الباحثين؟

... إنَّ المسامير الثلاثة: الانتقائية السلبية، والشخصنة، واللوبي الوراثي، تدقُّ اليوم في بعض المؤسسات الحيوية المرتبطة بإحداث التحولات التنموية الكبرى في بلدنا، وللأسف المطرقة التي يحملُها متخذو القرار في هذه المؤسسات تُهشِّم أي تفاءل بالمستقبل، وأي طموحات بالتجديد؛ لأنهم يطرقون هذه المسامير في قلب مؤسساتهم بعنف لا يجد من يُوقفه، ويعيقون المضي في ترسيخ المؤسساتية كنهج وممارسة لا غِنى عنها لتحقيق التقدم، ولأنَّ العملية معقدة، أدعو إلى النظر بعين الجدية إلى رؤية للتطوير المؤسساتية، ومعالجة الخلل البنيوي فيها، وتفعيل المرجعيات القانونية والرقابية، وتغيير اشتراطات شغل الوظائف الإدارية، والانتباه لتضارب المصالح، وإلى إعلان تقييم محايد داخل كل مؤسسة من قبل الموظفين إلى من هم في مراكز اتخاذ القرار، وإن لم يكن ذلك ممكنا، فعلينا أن نستمتع بصوت المطرقة والمسمار، ونترك جانبا الحديث عن المؤسسية، لأنْ تُصبح شعارا أجوف نرفعه دون عمل على تمكينه على أرض الواقع.