قلب امرأة

هالة عبادي – قاصة سوريّة


لم يكن ثمة جدوى من محاولة إخراج لونا إلى الهواء الطلق وهي التي لا زالت تحيا كوابيسها بعيون عميت عن كل ما حولها وآذان صمت عن كل ما يقال لها أو عنها
مظلة كبيرة تحتمي بها هي وأفكارها وقد طال بها الشوق بعد هروب زوجها سامي مع ابنها تاركاً إياها وحيدةً في تركيا قاطعاً أوثق الوعود لها بلم الشمل بأقرب فرصة تتاح له ، ابتسامة تناسب اعتقادها بوجوده كما كان يوماً معجبٌ بها يتابع سراً أخبارها ويترقب في الطرقات مرورها فهذا ما كان يردده على مسامعها قبل أن يهجرها ويمضي
لقد بدأ الشتاء للتو واختفت النساء ، على كلٍ لم تكن أيٌ منهن لتهتم به لولا استجابةٌ محزنة بدرت منها ذلك اليوم كانت يومها مغرمة بحبتي التين الطازجتين اللتين كان صالح يعرضهما راقبتهما بافتنان ثم تركت باب غرفتها مفتوحاً لتمكنه من الدخول ، ذلك كان قبل أن تكتشف سلوكه الغريب بعرض عضوه على نساء المأوى الذي انتهت إليه كلهن .
كان يبقي يده مدسوسة في جيبه وبأناقة فائقة تداعب يده الأخرى شاشة الآيباد بينما تتأرجح السيكارة على شفتيه وهو ينفث دخانها بطريقةٍ استعراضية جاذباً أنظار الجميع، إنه ينتظر فريسة جديدة لهذا فهو يطيل الجلوس أمام البوابة  الداخلية للسكن
توجهت إليه بالكلام في لحظة تجاهل منه فلم تلق جواباً ... وضعت يدها على كتفه لتطمئن إلى سماعه لما قالت اهتز وارتجف كمن استيقظ للتو من نومٍ عميق  .
لقد فقدت الكثير لكن فقدان زوجها كان مؤلماً إلى حدٍ بعيد ، تعلم مسؤوليتها عن ذلك وتكاد تسمع الناس وهم يتهامسون من وراء ظهرها إن الفراغ الذي سببه غيابه كان عظيماً
الحرية هي الحق الأول للإنسان هذا ما كان يروج له صالح ولأنه لم يجد في الريف بيئة مناسبة لحريته فقد هجره إلى المدينة ليكون على اطلاع أوسع على هموم العالم متخذاً من طول عضوه علاجاً شافياً لكل تلك الهموم ، ولعله تخلى عن الندم ليلاً عما يدور في أعماقه من شذوذ أو أنه كان يبيت ليلته مغرقاً وسادته بالدموع لكنه لم يكن ليثير بهذا قلق معجباته أبداً حتى وصل به الأمر إلى الصفح عن ميول أي منهن  بل وبلغ الذروة في الاستمتاع معهن وبأفكارهن الغريبة التي قد تتجاوز أحياناً غرابة أفكاره ، وكان العطف هو إحساسه الأكثر رسوخاً تجاه أي منهن وبالنسبة للونا فلطالما كان يطالبها بأن تمتلك القدر الأكبر من حريتها ولأنها لم تكن كذلك تركها بعد شهر واحد من علاقته بها لتعرف فيما بعد تحت دفء الأغطية أية قيمةٍ لزوجها  كانت تنكرها ، لقد تعلمت الآن أن تصبح حريصةً على أن تكون زوجةً مخلصةً له في الحياة وبعد الممات ، هي التي منحته الأبناء بسعادة وبشيء غير قليل من المتعة قبل أن يظهر هذا الماجن في حياتها ليقلبها رأساً على عقب .
كانت مولعةً بالأشياء الجميلة وكان ظهور صالح في حياتها منها ، لكن قدرها لم يكن بأفضل من قدر الأخريات في حياته إلا فاطمة التي احترمت جنونه كما أسر لها ذات مرة .
إنه يرى النساء كالعصافير جمالها في أن تطير ، يكره الأقفاص ويرى أن امتلاك امرأة بعقد جريمةً لا تغتفر، وبدا إلى حدٍ ما مخلصاً لهذا المبدأ وكانت فاطمة هي الأخرى تشاركه المبدأ نفسه .
كانت لونا تطفو طاهرةً في هواء نواياها الطيبة تستمتع بحديث الآخرين وقصصهم عن الغرائب التي تمر بهم وكان صالح الأكثر تفوقاً في حديثه عن مديرته في العمل التي دعته مراراً إلى شقتها ، وعن لباسه الداخلي الذي كان يظهر طرفه في اليوم التالي مهدداً مديرته بإعلان ما كان بينهما في ليلة الأمس، وعن ممارسته الجنس مع صاحبة الشقة التي كان يشرف على التشطيبات النهائية فيها ، دفعها للإبحار ببراءةٍ وسط بحر من القلق مهتمةً بكل ما هو حالم وبهي، ولم تكن تمل سماع حكاياته المرة تلو الأخرى بابتسامةٍ صافية متجددة وعيون مشدوهة براقة مبعدةً بذلك شبح الكآبة عن حياتها وروحها،  تفاؤلها وحيويتها العارمة النظيفة كانت تصور لها حديثه بلسماً لعذاباتها بسبب عجزها عن تغيير الأحوال ، وكم تمنت لو تبقى مختبئةً تحت سريره لتتأكد من مصداقية ما يرويه عن لقاءاته الغرامية القصيرة منها والطويلة الجامحة والمكبوتة قبل أن يلفها دفء مغامراتهما الغرامية السرية.
انحدر مستوى معيشتها مع استمرار الأزمة كما حدث للكثيرين ممن حولها فاستغنت عن الكثير من النفقات الإضافية وبدأ هذا يسلبها السعادة التي طالما نعمت بها كان زوجها ينطلق مع تنفس الصباح ويعود ليلاً منهكاً تاركاً لها مسؤولية الأولاد كلها لأنها كما يدعي تحسن إدارة الأمور خيراً منه ، لقد كانت كذلك دوماً فمنذ بداية حياتها الزوجية ألقى على عاتقها مسؤولية العمل والأسرة ،وكثيراً ما حاولت دوماً أن تجعله محط أشواقها كما حدث حين التقته أول مرة ، كان له حينئذٍ وجه مريح لكنه لم يعد كذلك مع التثاقل في أداء الواجبات وكثرة المشاحنات ، كانت معاركها الكثيرة معه تعزز الكراهية في نفسها ، فلم تعد تستطيع استقباله استقبالاً طبيعياً كما كانت من قبل تتعلق بعنقه تبثه الحب والأحزان ،   
ظلت رياح البؤس تدوم حول زواجها دون أن تصل إلى لفها أو ملامستها وهي محمية بسور الأهل العالي الذي ربيت وراءه  لكن حساسيتها المفرطة وتلك الظروف الجديدة وعاطفتها كانت تكفي لملء حتى أحلامها به.  
كثرة المصاعب جعلتها لا تشعر بالرضا حيال حياتها  لكنها كانت دون السخط أو الجرأة على طلب الطلاق من زوجها مرت البلاد بأزمة طويلة اتخذها زوجها ذريعة ليهاجر كما فعل غالبية رجال البلاد، طال غيابه وطالت معه ملاحقة صالح لها حتى غابت المرأة القوية الصابرة التي تحملت الآلام ومهام الأمومة ومشاق العمل دون شكوى ، فأحست معه أن عفتها كانت مجرد أمر اضطراري وأنها على حافة الغرق حيال سحره الذي بدأ يسيطر على قلبها مدركةً أن حبها له كان أكبر من أي حب متأكدةً أنها حاولت ما استطاعت للحول دون ذلك لكن على ما يبدو أن جهودها كانت بلا جدوى
لقد تمكنت جاذبيته من فتنتها كما فتنت أخريات كثيرات ، بدا تجسيداً للكثير من أفكارهن الخفية وأحلامهن وولعهن بالمغامرات وليس ينكر أن جمالها المتناسق وهدوءها المشذب قد جذبه كما جذبته شيخوختها التي لم تفرض عليها أبداً أن تغادر الشباب  واحتفاظها بالكثير من رقتها وأنوثتها  باختصار شديد لقد فقدت توازنها سريعاً أمام تقدمه نحوها فأخذت تسرح في عالم سري من اللذة معه راح يجوب  بها أركاناً خفيةً من هذا العالم المسحور متخيلان ما شاء لهما القدر أن يتخيلا إلى حد إصابتهما بالنشوة مجرباً معها مغامرات عابرة صرحت بوضوحٍ عن عاطفتهما ابتسما بعدها متخففين سعيدين مرتعشين  ليعود بعدها إلى فاطمة التي خلقت ليتقاسم معها الحياة كلها وليعرفا معاً جسارة تبادل الحب إلى الأبد متبرئاً منها وكأنما خلقت هي لتعيش قذارات المجتمع ، وعلى الرغم من أن علاقتهما لم تدم أكثر من شهر إلا أنه ما من شخص يستطيع أن ينكر أن لونا التي عرفته لم تكن نفسها وهو يغادرها شيءٌ في روحها كان قد انكسر ، كان عليها أن تعود إلى حقيقة واقعها حيث هاجس الحرية والتقدم أنزل ببلادها الكثير من الويلات  
مجادلةٌ عنيفة كانت بينهما تبادلا فيها السباب والشتائم أنهت الأمر بخروجه بهدوء من حياتها أما من طرفها فكانت تعزي الأمر لتعلقه بامرأةٍ أخرى ، وحين أفسدت الشكوك أعصابها لجأت إلى الصمت كعلاجٍ دائمٍ وبفضله استطاعت التغلب على مشاكلها  
ثلاث سنوات مرت قبل أن يتمكن زوجها من الإرسال في طلبها كانت تسرح فيها في عالم سري تتذوق لذيذ ذكرياتها وعواطفها معه  معيدةً بناء أجمل ما لديها من أشواق ساهيةً تماماً عن صخب المناقشات ولنقل أنها في هذه اللحظة اتخذت قرارها باصطفاء ذكرياتها ومحو المنغصات وندمت على ما كانت تعانيه بسبب المشاكل التي باتت وقد عادت للحلم بدفء حضنه تراها جد تافهة ، لم تكن تريد حمل أحزان قديمة لهذا فإنها لم تعد تأتي على ذكرها بل كانت تلغيها بالصمت محافظة على اتزانها وعلى طيب مزاج زوجها وكأن تجربتها مع صالح لم تفعل في حياتها إلا مراكمة الحب نحو زوجها وتعميقه
لم يحترم صالح التبدل الذي طرأ على حياتها فعاد يسألها الحنان
طازجة وهادئة كما كنت دوماً قالها لينفي حالة العداء التي استحال إليها حبهما  
استمعت بلا تعاطف إلى كلماته ...
لقد كان الوداع قاسياً قالها بأسف ثم عاد للصمت من جديد...
تنفست بعمقٍ دفء كلماته لكنها لم تسمح له برؤية البريق في عينيها  ففي لحظة الصفاء التي كانا فيها لم يكن للكلام من جدوى ، وعلى العكس مما كانت تظن بأنها ستتركه ذاك المغموم التعس الذي هو أقرب للموت بصمتها ، لم يزعجه رفضها له فالعالم كما يراه يمتلئ بنساء أخريات على حد تعبيره  أكثر رغبةً بالحياة معه وهو الذي يمتلك اكسير الشباب الدائم وسر أسرار الحياة .

تعليق عبر الفيس بوك