جمال الكندي
العالم كان يترقب بشغف كبير وانتظار لم يسبق له مثيل، كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، لاسيما وأن الكلمة سبقتها دعاية كبيرة من قبل حزبه بأنّها ستكشف الحقيقة، والحلقة الضائعة من مسلسل "مقتل خاشقجي"؛ فهل كانت الكلمة حاسمة في بيان مجريات ما حصل؟ أم كانت كلمة ذات أبعاد سياسية، ومحافظة نوعاً ما على البرتوكولات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول؟
من هذين السؤالين سندخل إلى موضوع المقال وبالإجابة عنهما ستتضح لنا معادلة جديدة لمشهد سياسي مختلف في المنطقة يتبلور من وراء حادثة مقتل "جمال خاشقجي" خاصة عند حلفاء المحور الأمريكي؛ فهذه الحادثة سيكون لها أثر في التوجه السياسي والعسكري لما يحصل في سوريا واليمن، وصولاً إلى التأثير ولو بنسب معينة في صناعة القرار السياسي في المطبخ العراقي واللبناني.
الحادثة ستكون لها تداعيات مستقبلية في هذه البلدان، فستضعف جبهة وتقوي جبهة، خاصةً جبهة الحرب في اليمن فستفتح الملف الإنساني فيها من الباب الأوروبي عن طريق المطالبة بوقف بيع الأسلحة للسعودية، وإنهاء تلك الحرب العبثية.
كلمة الرئيس التركي كانت مخيبة لبعض السياسيين، وخاصة من داخل الدائرة المعارضة لحزب أردوغان، فحسب توصيف منتقديها لم تأتِ بالجديد، بل كانت تردد ما سربته الصحافة المحسوبة على الحزب الحاكم في تركيا، وكانت مخيبة أيضاً لآمال بعض مناهضي "السياسة السعودية" في المنطقة، لأنها جاءت موارية وتحمل الطابع الدبلوماسي أكثر من اللازم.
من هنا وجواباً على السؤال الأول؛ فإنّ كلمة الرئيس التركي كانت حاسمةً وواضحةً من ناحيتين: أولاً هدمت الرواية الرسمية السعودية بأنّ حادثة القتل كانت بسبب شجار دار داخل القنصلية، فأوضحت كلمة "أردوغان" أن حادثة القتل كانت مدبرة منذ فترة ولها سيناريو معد ومخطط له.
ثانياً: دحض مزاعم أنّ عملية القتل كانت عفوية، ومن دون تخطيط، فبهاتين الخاصيتين نقل أردوغان الكرة إلى الملعب السعودي والأمريكي، وهذا يعني أن هنالك مساحة للتفاوض وعقد الصفقات السياسية والاقتصادية.
من هذه النقطة ندخل في جواب السؤال الثاني؛ فكلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كانت ذات أبعاد سياسية؛ فقد راعت العلاقات الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول، ولم تكن عدائية تجاه السلطة السعودية، وكانت ودودة للغاية مع رأس الهرم السياسي فيها.
في المقابل قدمت كلمة الرئيس التركي البراهين والحجج التي كانت متداولة خلال الفترة الماضية في الصحف التركية في شرح كيفية مقتل جمال خاشقجي ولكنها لم تتطرق إلى التسريبات الصوتية والمصورة لعملية القتل، وتركتها للمستقبل، وهذا ما جعل بعض المتابعين للكلمة تصيبهم خيبة أمل لأنّها لم تذكر هذه الأدلة.
الرئيس التركي فضل مسك العصا من المنتصف -كما يقولون- وترك الباب مفتوحاً للمساومات السياسية والاقتصادية، والتي بدأت قبل صدور الكلمة بوصول رئيسة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى تركيا، ووزير الخزانة الأمريكي إلى السعودية، وزيارة مستشار الملك سلمان بن عبد العزيز، الأمير خالد بن فيصل إلى تركيا مرتين، والقائمة مرشحة بالمزيد، وكلما تأزمت الأمور سنرى مزيداً من التسريبات.
قضية مقتل الصحفي البارز جمال خاشقجي بصرف النظر عما سيحدث مستقبلاً في نتائجها، فستغير من معالم المشهد السياسي في المنطقة، وهناك حليف مهم لأمريكا يراد له أن يكون من ضمن محور معادي لإيران تكسرت صورته أمام المجتمع الدولي، وتحاول أمريكا إيجاد رافعة له تنتشله من هذه القضية التي أصبحت بشكل غير مسبوق حديث الصحافة الغربية قبل العربية منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، والغريب أنّ الخصم ليس دولة من خارج المحور الأمريكي بل، هي من صلب هذا المحور.
في الجانب الآخر نرى تغيراً في المزاج السياسي الأوروبي تجاه السعودية بسبب هذه القضية، فسلبية المشاركة الأوروبية في مؤتمر "دافوس الصحراء"، تدل على تأزم العلاقة الغربية مع السعودية منذ حادثة مقتل جمال خاشقجي.
كذلك تخبط الرئيس الأمريكي في تصريحاته، فهي متقلبة ومتغيرة، وهذا بدوره يضعنا أمام علامات استفهام كبيرة، فكل ما حصل في اليمن من دمار، وقتل، وتشريد ومرض بسبب الحرب الدائرة هناك، لم تستدع من الأوربيين وقفة إدانة صريحة ضد هذه الحرب، بالمقابل نرى إجماعاً أوروبياً في قضية حادثة مقتل جمال خاشقجي.
أظن أنّ ما بعد قتل جمال خاشقجي ليس مثل ما قبله، وهناك معادلات سياسية جديدة تبنى على دماء الصحفي جمال خاشقجي وربما تكون إخفاقات المحور الأمريكي في المنطقة على حساب محور المقاومة في سوريا واليمن والعراق فاتورة يجب أن تدفع، وكان مقتل هذا الصحفي باباً من أبوابها، ومنطلقاً لتغير المشهد السياسي في المنطقة، تحت مبدأ المكسب والخسارة، وبناءً على هذه القاعدة فحلفاء أمريكا العرب خسروا في سوريا، والعراق، ولبنان وأخيراً اليمن.
قضية مقتل جمال خاشقجي ستظهر لنا كيف ستتعاطى أمريكا وأوروبا مع حليفها التقليدي في المنطقة، وهل الأمور مرشحةٌ لتصعيد سياسي واقتصادي؟ وهل هنالك صفقات سياسية تدار من خلف الكواليس؟ القادم من الأيام وحده كفيل بإظهار ذلك من عدمه.