الصيد في الماء العكر!

 

محمد بن حمد البادي

في خضم التطور التكنولوجي المُتسارع جداً، ربما نرى عمّا قريب وظائف قد اختفت من الوجود أو لأحسنها حالاً تقليصها واستبدالها بوسائل التكنولوجيا الحديثة.. فعالم اليوم يعيش ثورة الذكاء الصناعي وتقنية النانو، وهي بإجماع عمالقة الاقتصاد في العالم يُتوقع لها أن تكون مرتكزاً للاقتصاد الناجح، مما يعد مؤشراً لبداية عالم تكنولوجي جديد تماماً، يتم فيه الاعتماد وبشكل كُلي على الابتكار والإبداع وتنمية المواهب في فضاء تكنولوجي لا متناهٍ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر.. يسعى العالم اليوم وبشكلٍ جدّيٍّ للاستغناء عن طياري المقاتلات الحربية، فخسائر الطائرات الحربية تكلّف الدول الكثير، وأهم هذه الخسائر على الإطلاق هي الخسائر في الأرواح، والتي يُمكن تجنبها من خلال الطائرات بدون طيار.

ووظيفة موظّف الاستعلامات ليست بأحسن حالٍ منها، فهي مُدرجة ضمن قائمة الوظائف المنتهية، والتي سيحل محلها جهاز الردود الإلكترونية.

كذلك وظيفة بائعي الصحف الورقيّة ستختفي تماماً ليحلّ محلّ الصحف الورقيّة صحف إلكترونية.

وكذلك الحال بالنسبة لمكاتب السّفر والسّياحة.. ستختفي يوماً ما بأكملها بسبب وجود الإنترنت، فالعالم الإلكتروني يزخر بعشرات المنصات والمواقع الموثوقة التي تُساعدك على شراء تذكرة الطيران، والإقامة الفندقية وتأجير وسائل المواصلات وتنظيم رحلات سياحية وفقًا لاختياراتك الشخصية، لن يكون هناك حاجة للعاملين في شركات السياحة في المُستقبل.

"تأثير التقنية على أعمال المُستقبل"، كانت من أبرز المحاور التي تطرق لها معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة نائب رئيس المجلس الأعلى للتخطيط في مُحاضرته التي ألقاها الأسبوع الماضي في جامعة السلطان قابوس والتي حملت عنوان "أين وجهة الاقتصاد العُماني؟".

وبالرغم من أنَّ معالي الدكتور قال، وبالحرف الواحد: "فلا تسيئوا فهمي، ما في شك أنَّ الشهادة مهمة، خاصة بالنسبة للمتخصصين، لكن هي ليست كل شيء، هي واحدة من العوامل التي تُساعدك في النجاح وليست كل شيء"، وهنا يقصد بالطبع ما عده البعض خروجاً عن النص، حين قال معاليه بعفويته المعهودة عنه على سبيل التندر ليس إلا "لا تعتمدوا على الشهادة الجامعية التي يُعطيكم إياها الدكتور علي البيماني وجماعته"، وعلى الرغم من ذلك، نجد أن بعض المتشدقين بالوطنية أساؤوا الفهم فعلاً، وفسَّروا كلام معاليه حسب أهوائهم، وأعطوا الموضوع أكبر من حجمه، وحمّلوه أكثر مما يحتمل، بل رأينا بعض المُزايدين على الوطنية ينادون بإغلاق كل الجامعات وجميع مؤسسات التعليم العالي في السلطنة طالما أنَّ الشهادة الجامعية لا قيمة لها، رغم أنَّ هؤلاء كانوا في قرارة أنفسهم مُتيقنين تماماً أنَّ معاليه ما ساق هذا الكلام، إلا دعابة عابرة منه ليُخرج المحاضرة من طور الجمود والرتابة والملل وخصوصاً أن المحاضرة كانت تتعلق ببيانات مالية وأرقام وحسابات، وهو أسلوب يتبعه الكثير من المحاضرين العالميين لبث النشاط في نفوس الحضور، وهذه النقطة بلا شك تحسب لمعاليه.. لا تُحسب عليه.

معالي الدكتور أعطى توجيهاته للشباب بضرورة عدم الاعتماد على الشهادة بشكل كلي وألا يقفوا مكتوفي الأيدي في انتظار الوظيفة، وإن كانت الوظيفة حق محفوظ للجميع متى ما تحققت شروط شغلها.. ولزاماً على جميع الشباب عدم تعطيل إمكاناتهم وقدراتهم، بل عليهم السعي الحثيث في تحسين مستوياتهم المعيشية من خلال اختيار أنشطة تناسب مواهبهم وميولهم، وتسخير كل ما أنعم الله عليهم به من إمكانات وقدرات في سبيل تحقيق ذلك.

معاليه أعطى الشباب أفكاراً إيجابية من أجل فتح مسارات جديدة على الجوانب الاستثمارية في المجالات المختلفة، سواءً كان ذلك في مجال الثروات الزراعية والحيوانية والسمكية والمعدنية، أو حتى مجالات الطاقة المتجددة، أو غيرها من المجالات، من أجل تحقيق أهدافهم المستقبلية.

معاليه، أراد للشباب أن يفكروا خارج الصندوق، أو أن يستبدلوا الصندوق بصندوق آخر، وألا تنحصر رؤيتهم للحياة في زاوية مستقيمة فقط، بل عليهم أن يُغيّروا من طريقة تفكيرهم، وأن يتجاوزوا الأفكار المألوفة.

ومثالاً على أهمية التفكير خارج الصندوق، أجرت وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" عشرات التجارب على أقلام حبر لاستخدامها من قبل رواد الفضاء تقاوم انعدام الجاذبية، وبعد ما يقارب عشر سنين من البحوث والتجارب لحل هذه المشكلة، وبعد أن صرفوا عشرات الملايين من الدولارات وصلوا لتركيبة خاصة من الحبر السري.

بينما العلماء الروس، عندما واجهتهم هذه المُشكلة، قاموا بحلها بطريقة غير متوقعة، وبسهولة تامة، فقد استخدموا أقلام الرصاص التي تكلفة العشرة منها أقل من دولار واحد، وبذلك قاموا بتوفير ملايينهم وجهودهم في الأبحاث، لماذا؟

ببساطة شديدة لأنَّ العلماء الروس فكروا خارج الصندوق، وخرجوا عن المألوف.

معالي الدكتور لم يُقلل من مستوى الجامعة أبداً، ولا من الشهادة الجامعية والدليل على ذلك أنَّ معاليه حاصل على البكالوريوس في الهندسة الصناعية، وعلى الماجستير في إدارة الأعمال، وعلى الدكتوراه في الاقتصاد،، بل كافح واجتهد كثيراً وهو يتدرج في مراحل التعليم مرحلة تلو أخرى حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولا يزال ـ معاليه ـ حريصاً جداً على إلحاق أبنائه بمؤسسات التعليم العالي للحصول على أعلى الشهادات الجامعية، ويشجع الجميع على ذلك.

معالي الدكتور علي بن مسعود السنيدي وزير التجارة والصناعة، نائب رئيس المجلس الأعلى للتخطيط، محل ثقة كريمة من لدن صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- أيده الله- حين أسدى جلالته شرف تولي الحقيبة الوزارية للتجارة والصناعة لمعاليه من أجل تحقيق الرؤية المستقبلية لهذه الوزارة والتي تتمحور حول تهيئة بيئة أعمال تنافسية للقطاع الخاص ليُساهم بفعالية في تنمية الاقتصاد الوطني، وكذلك من أجل تحقيق رسالة هذه الوزارة والتي تتمثل في تحقيق آمال الشعب العماني بمختلف شرائحه وتنمية قطاعات التجارة والصناعة والخدمات من خلال التطوير المُستمر للتشريعات والسياسات، وتقديم خدمات متكاملة تعزز بيئة الاستثمار وتدعم العلاقات التجارية الدولية، من أجل تنمية اقتصادية مستدامة.

وهذا بالطبع يغني عن كل الكلام، فمن هذا المنطلق يجب ألا نفكر في شيء يُخالف توجهات سيد عُمان وباني نهضتها حفظه الله ورعاه وسدد على طريق الخير خطاه.

وختاماً.. بلدي عُمان، نعم الأرض أنتِ، هذا البلد الطيب لا يخرج منه إلا الطيب وما عهدنا على أهله إلا كل الخير، فلم تسجل كتب التاريخ أنَّ أبناء عمان يتصيدون في الماء العكر، ولم نجد من بينهم من يمسك مجهراً يتتبع خطوات الآخرين، يلهث وراءهم بحثاً عن الأخطاء ويترصّد السقطات، فهذه بلا شك صفات ذميمة لا يتحلى بها إلا أصحاب العقول الضيقة المنغلقة، ذوو الرؤى المحدودة.

تعليق عبر الفيس بوك