د. سيف بن ناصر المعمري
لقد آثار معالي وزير التجارة والصناعة الدكتور علي بن مسعود السنيدي جدلاً كبيرًا في مُحاضرته التي ألقاها في جامعة السلطان قابوس، أقدم مؤسسة تعليم عالٍ عُمانية، المحاضرة كان مقررا لها عنوان على قدر كبير من الأهمية وهو "الاقتصاد العُماني"، وهو الذي يشغل كثيرين اليوم بما فيهم الجامعة التي تأثرت بمن فيها بإجراءات التقشف الاقتصادي منذ أربع سنوات.
ورغم أهمية الموضوع إلا أنَّ العبارة التي استخدمها معالي الوزير للإشارة إلى الفجوة بين التعليم وسوق العمل أو بين الشهادة والواقع أثارت حفيظة البعض بمن فيهم كاتب المقال؛ حيث رأينا أنها – حتى وإن كانت على سبيل الاقتراب من لغة الشباب- غير مُناسبة للسياق الذي قيلت فيه، وبالتالي كان اعتراضنا على التقليل من شأن التخصصية التي تنتج من التعليم ودورها في بناء قدرات ذات مستوى عالٍ في مجالات تتنافس فيها دول العالم اليوم مثل الاقتصاد المعرفي والذكاء الاصطناعي وغيرها من الجوانب التي لا يُمكن أن تُتعلم وتُصقل إلا في أروقة الجامعات ومخابرها، ونقاشاتها، وأنَّ أي صناعات تقوم حتى وإن كانت تقليدية يرى فيها البعض أنَّها لا تتطلب خبرات تعليمية، تكون أفضل حين تُحركها مرجعية تخصصية حتى وإن كانت تربية النحل أو الأسماك أو الأغنام أو صناعة الخبز أو الحلوى وغيرها من الصناعات التي يُمكن أن تنشأ في عمان منطلقة من الجامعات العُمانية، كما هو الحال في بقية دول العالم التي انطلقت فيها صناعات تكنولوجية من الجامعات رفدت اقتصاديات بلدانها، فما قيمة الجامعات إن لم تقم بهذا الدور؟ ما قيمتها إن كانت تعمل على محو الأمية لدى طلبتها دون أن تقودهم إلى الواقع، وتحضر لهم الواقع إلى أروقة الجامعة؟
إنَّ أهم ما يلفت في محاضرة معالي الوزير- وهو الذي يجب أن نركز على تحليله في هذا المقال- هو انتقاد ضعف صلة التعليم بالواقع وسوق العمل، وهو انتقاد على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية لأنه أولاً يأتي من قبل أحد أبرز وزراء الحكومة وأقواهم من حيث المناصب الوزارية وإدارة مجالس اقتصادية متخصصة، وثانياً هو يأتي في قلب أهم مؤسسة تعليمية في سلطنة عمان وهي جامعة السلطان قابوس، وبالتالي هو يمثل- كما وصفه البعض- شفافية كبيرة في تقييم الواقع، وصراحة غير مسبوقة من أي مسؤول حكومي في نقد واقع التعليم وعدم تلبيته لمتطلبات سوق العمل من مهارات تخصصية في التفكير والتخطيط والاستقلالية، ومهارات تكنولوجية، ومهارات في فهم بنية الاقتصاد وسبل الدخول فيه. هذه المعطيات أكد صواب الوزير فيها قطاع ليس فقط من المُغردين ذوي الحسابات "الوهمية"، بل أيضًا بعض المسؤولين في قطاعات عدة أرسلوا لي مستنكرين بصمت تغريدة لي حول الموضوع، وأرفق بعضهم تغريدات تمثل دعمًا لموقف معالي الوزير، وتصفه بأنَّه يُمثل الحقيقة التي لا نُريد أن نواجهها، أو الحقيقة التي نتحسس منها، أو الواقع الذي نهرب منه، وهذا وضعني في استغراب كبير، وتناقض تعيشه بعض مكونات المُجتمع، وهذا ربما يُقبل بشيء من التحفظ، وتناقض يعيشه بعض متخذي القرار من نخب إعلامية وسياسية وغيرها – وهذا لا يُمكن قبوله لأن يمثل لنا أزمة وازدواجية ربما في خطورتها أكبر مما قال معالي الوزير.
إنًّ الخطورة التي يُمثلها موقف النخب التي ذكرتها في الأعلى تنبع من موقفها مما طرحته أنا شخصياً في هذه المساحة (بجريدة الرؤية) منذ ثمان سنوات حول الواقع المؤلم للتعليم، وضعف اتصاله بالحياة والواقع ومتطلبات التنمية، وحذرت خلال ذلك من خطورة الاستهانة بضعف جبهة التعليم وهو القاطرة التي تقود الاقتصاد والتنمية، يومها لم يوصف ما قلته بأنه شفافية إنِّما وصف بأنه تجنٍ وشخصنة، يومها لو يوصف بأنَّه كشف للحقيقة إنما وصف بأنه تزييف للحقيقة، ولم يوصف بأنه إيجابية إنما وصف بأنه سلبية، يومها لم ينبرِ هؤلاء للدفاع عنِّي أو غيري من الكتاب الذين حركتهم غيرتهم الوطنية للكتابة بشجاعة وموضوعية من أجل أن يكون لنا تعليم يشفع لنا في هذا العالم الذي تزداد التنافسية فيه، ولا يبقى فيه إلا المجتمع الذي يتكئ على علمائه وباحثيه ونخبه الفكرية، بل تعرضنا للتضييق على أكثر من صعيد من قبل مؤسسات التعليم نفسها أو من قبل مؤسسات غير تعليمية، واتخذت قرارا باستبعادنا من لجان كنَّا نعمل فيها، واستثنيت من الدعوة إلى ندوات وطنية حول التعليم، وضيّق على من كان له صلة بنا داخل هذه المؤسسات، وحين رفضنا هذه الممارسات أمام المسؤولين الذين دافعوا بالأمس عن كلام معالي الوزير قالوا لنا: "إنكم تكتبون ضد الوطن ومنجزاته"، لم يدافعوا عن قيمة القضية التي نُدافع عنها، ولكنهم انبروا للدفاع بالأمس، فحمدا لله أننا إن كانوا يتهموننا بالسلبية فقد أصبح في قائمتنا أحد أهم وزراء الحكومة، وإن كانوا يرون معالي الوزير على حق فإننا كنَّا أيضًا على حق وما قلناه من قبل يؤكده بعد كل هذه السنوات معالي وزير التجارة والصناعة. هل على الكاتب إذن أن يكون وزيرا حتى يكون على حق؟ هل على الكاتب أن يكون وزيرا حتى لا يُشكك في نواياه؟ هل على الكاتب أن يكون وزيرًا حتى لا يتهم في وطنيته ونزاهته؟
لا شك أنَّ معالي وزير التجارة والصناعة رمى بشرارة كبيرة جدًا حول واقع التعليم، إلا أن النقطة التي نختلف فيها معه أنَّه يوجه خطابه إلى الطلبة ويُطالبهم بتغيير واقعهم، وإعادة تأهيل أنفسهم بعد الحصول على "عربون" المعرفة الأساسية ويُطالبهم بالاعتماد على النفس ومُجابهة الواقع، ومثل هذا الخطاب يفترض أن يوجه لجهات التخطيط والإشراف على التعليم، وإلى مؤسسات التحقق من الجودة عليه مثل الهيئة العمانية للاعتماد الأكاديمي التي كشفت عن هشاشة بعض مؤسسات التعليم والجامعات مؤخرًا، فالمجابهة هنا أولى، خاصة أنها تكون من قبل الدولة، فطالما هذا هو الواقع لماذا يضغطون وهم متخذو قرار من أجل إنقاذ التعليم، وتجسير الفجوة بين الواقع والدراسة داخل الجامعات، هذا هو الخيار الأمثل وليس توجيه الخطاب للطلبة.
إننا نأمل أن تكون هذه اللغة الواضحة المُباشرة التي عبَّر بها معالي الوزير منطلقًا لحراك كبير، سيما وأن البلد على مفترق طرق في مجال الاقتصاد والتنمية، وسيما وأنّ هناك استراتيجية طويلة المدى تعتمد الآن وهي استراتيجية عمان "رؤية 2040".