الحوار والتعددية الفقهية

 

د. يحيى أبو زكريا

من يتأمل واقع الأمة الإسلامية واجتياح التكفير والأحادية والاستئصال والإقصاء للعقول والجامعات والجماعات وحتى الحكومات يكاد يجزم بأنّ هذه الأمة لا علاقة لها بالتنوير والحوار والتعددية في أي فترة من تاريخها ...ومما قاله الشيخ محمد أبو زهرة في هذا السياق "إن اختلاف الآراء في الفروع الفقهية لا يدل على انحراف في الدين .. مادام أساسه طلب الحق وهو يفتح للعقول الطريق للاختيار الصحيح فإنّه من وسط اختلاف الآراء تعرف أوجه النظر فيها فينبلج نور الحق ساطعا" ومن جهة أخرى فإنَّ الصحابة كانوا يختلفون في فتاويهم وأن هذا لم يؤثر أبدًا على مشاعر المودة والتقدير المتبادلة وورث التابعون هذه الصفة عن الصحابة كما ورثها تابعو التابعين.. وكانت وشائج التقدير والحب تربط بين الذين جمعهم وقت واحد مثل جعفر الصادق وأبي حنيفة ومالك والشافعي والليث ومحمد بن الحسن وأحمد وغيرهم .. ومن دلائل التعددية الفقهية أنَّ الفقهاء ألفوا كتبا كثيرة في الاختلاف الفقهي وأدابه وأدب المناظرة والجدل وأسبابها ومسائلها ومن هذه الكتب: اختلاف الفقهاء" لابن جرير الطبري وكتاب "تأسيس النظر" لأبي زيد عبيد الله الدبوسي وكتاب "الإنصاف في التنبيه على المعاني والأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم" لابن السيد البلطيوسي وغيرها من الكتب، وكان الفقهاء والمجتهدون يختلفون في أدب دون سب وقدح وذم ولعن وشتم كما هو السائد بين دعاة الزيف والتزوير هذه الأيام .. قال الرازي في المحصول وتبعه السراج في تحصيله والتاج في كتاب الإجماع لو بقي من المجتهدين واحد كان قوله حجة، وقال الذهبي في "طبقات القراء" في ترجمة أبي عبيد القاسم بن سلام: كان يجتهد ولا يقلد أحدًا.

وقال السبكي في "الطبقات الكبرى" في ترجمة إمام الحرمين لا يتقيد بالأشعري ولا الشافعي وإنما يتكلم على حسب تأدية نظره واجتهاده. كانت الحجة والبرهان جناحي الرأي والحكم والنظر، وإلى وقت قريب كانت الحواضر الإسلامية تدرس كل المذاهب والآراء الإسلامية، الأمر الذي أدى إلى إثراء الفقه وإغنائه، ولطالما سمعنا فقيهًا يقول: الفقيه الفلاني ذهب إلى هذا الرأي وهو لم يتأمل قوله تعالى أو استند إلى حديث ضعيف أو مبانيه الأصولية لم تكن موفقة، ولم يشتم هذا ذاك، ولا لعن ذلك أولئك ..

كان هذا عندما كان العلماء الربانيون في صدارة المشهد، وعندما كانت رسالة الفقه واضحة، ولكن عندما بات الفقه ملحقاً بالسلطة وبات يجير الفتاوى لصالحها ساعة تشاء، فقد تبدل كل شيء ..

و كثير من المسلمين ومن مختلف المدارس الإسلامية يتعاملون مع ما وصلهم من حقائق الإسلام أو المذهب عن طريق التسليم المطلق لما وردهم، وتسليم عقولهم بالكامل لما بين أيديهم ...والمصيبة الأكبر بعد النقد والتمحيص يتضح أنَّ هذا الموروث ساهمت السياسة في صياغته، فمنذ أن دبت الفتنة الكبرى في العالم الإسلامي دأبت السلطات والسياسات على صناعة شرع ساست به الأمة، هذا ديدن الخلافة الأموية والعباسية والبويهية والعثمانية والصفوية والقاجارية وكل الإمبراطوريات التي توالت على الحكم وكرست وجودها بقدسية الشرع والذي كان حصان طروادة للحكم وديمومته ... وإذا أردنا أن نطهر الموروث الإسلامي من الشوائب علينا أن نسحب القدسية من كل السلط والإمبراطوريات لأنه لا يوجد واحدة منها كانت معصومة وكلها جيرت الإسلام لصالحها ....ونغادر الحيز الذي تشكل فيه العقل العربي والإسلامي ونعيد بناءه بطريقة منسجمة مع روح الإسلام والمقاصد الشرعية.. وللأسف الشديد فإنَّ معظم الإنتاج المعرفي الإسلامي ومعظم المؤلفات الإسلامية تعالج الماضي وترسباته والتاريخ ومسالكه المزورة، وقلما تجد كتابًا يعالج المستقبل ويستشرف القادم من الأيام .. فنحن أمة مسكونة في الماضي، ولا وجود لنا في المستقبل .. واستصحاب العقل الماضوي بهيئته التاريخية هو الذي أنتج فكر الذبح المخالف قلباً وقالبًا لكينونة الشريعة، ولينبلج فكر التفكير والحجة والعقلانية فلابد من إعادة صياغة العقل العربي والإسلامي بل وإعادة بنائه وتكوينه وهذا ما يجب أن تبنى عليه أجيالنا الراهنة والمُقبلة ....ولن يتأتى لنا إعادة الصياغة حتى نحدد مجددا مؤطرات ومرجعيات هذا العقل لأنَّ المسلمين كانوا يقولون قرآننا، فباتوا يقولون كتبنا وكتبكم، مصنفاتنا ومصنفاتكم، المسلمون شيء والقرآن شيء آخر و‏المسلمون هم الذين طلقوا قرآنهم.