المجتمع الهندي .. القيم والأساطير والمفاهيم الدينية في إطلالة سردية

 

أحمد الرحبي

تشكل الهند ككتلة سكانية مجتمعا واسعا كبيرا متعدد الأعراق والإثنيات، وتعدد اللغات المحلية فيها، حالة فريدة تتميز بالغنى والثراء الاجتماعي من حيث العادات والتقاليد المُتبعة في كل إقليم من أقاليمها الواسعة والمتعددة، ومن حيث أنماط الحياة، والقيم والأساطير والمفاهيم الدينية لكل مجموعة سكانية، كما أنَّ تجربة الهند مع التطور والانتقال إلى النمط الحديث في المجتمع لها فرادة خاصة، خصوصًا مع تجربتها الناجحة في التنمية والتطور الاقتصادي الذي تحققه الهند بخطى واسعة منذ سنوات، برغم ما تشكله الصعوبة والتحدي بالانتقال بمُجتمع زراعي ريفي في قيمه وعاداته وتقاليده، إلى مجتمع صناعي وقوة اقتصادية صاعدة حققت للهند المرتبة الرابعة في الاقتصاد العالمي.

من بين الأنماط الأدبية في الكتابة، تشكل القصة القصيرة سجلاً اجتماعيًا يعبر في قالب فني من السرد الذي يلتفت إلى التفاصيل الصغيرة للواقع المعاش ورصد التناقضات وتسجيلها، لبلورتها في نص أدبي يتميز بالتكثيف والاختصار الفني الممتع، وفي مختارات من القصة القصيرة الهندية الحديثة وهو كتاب من إصدار المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب في دولة الكويت، ضمن سلسلة إبداعات ثقافية، نقرأ مختارات قصصية تمثل أقاليم وثقافات وبيئات شبه القارة الهندية، وهو ما يُمثل إطلالة نادرة للأدب الهندي الحديث عبر اللغة العربية، بالنظر إلى قلة الترجمات لهذا الأدب برغم ثراء وغنى هذا الأدب، في المكتبة العربية.

 إنَّ تناول بعض العادات الاجتماعية البالية في المُجتمع الهندي يعطي للمجموعة صوت ناقد خاصة للمجتمع التقليدي في الهند، والذي يوظف هذه العادات في قهر المرأة الريفية: إنَّ القيام بتجفيف المنديل المبلل بالدموع من قبل شخص لديه ابنة في سن الزواج كان مثل من يقول: إنني أقدم لك ابنتي لتأخذ مكان تلك التي ماتت للتو، لاتبكي بعد الآن لقد جففت منديلك المبلل..فعندما تبلغ الفتاة الخامسة أو السادسة من عمرها تركع عند قدمي شخص ما، فيكون هو الزوج، كيف يتسنى لها أن تعرف من هو؟ يأخذ والدها نقودا أو أزهارا ويضعها عند قدميه.

وينعكس الصراع الاجتماعي في المجموعة القصصية في صوت ذي نبرة رافضة لهيمنة الأغنياء على المجتمع: أكره بقوة المجتمع الذي يصممه الأغنياء لأجل سعادتهم الخاصة، فالقانون فيه يفضل إطلاق سراح عشرة مذنبين على معاقبة شخص بريء.

فيما يأخذ الصوت بعد ذلك نبرة اتهامية للطبقة المُثقفة في الهند: جميعكم عبيدا إما لروسيا وإما للولايات المُتحدة فلم يبق وطني غيور واحد بين شبابنا المثقفين، فذوو الياقات البيضاء متيبسين وبلا اكتراث، لن يتنازلوا إلى شيء عامي من قبيل كلمة شفقة أو لفتة فضول طارئ.

ويظهر السلوك والتصرفات الغاشمة في الدفاع عن الامتيازات الطبقية على حساب الطبقات الأخرى ماثلا بقوة في سردية بعض القصص في المجموعة:مهمتهم التحديق بقسوة في أحد الأشخاص، أو عطب شخص ما،أو كسر عنق أحدهم، أو حبس آخر بشكل غير قانوني، أو سجن أحدهم في منزل والإقفال عليه، أو رمي الحجارة ليلاً على بيت أحد الأشخاص، أو اعتراض شخص في الطريق، وغير ذلك، وإذا سيقوا إلى المحكمة فإنَّ سيدهم يحميهم بواسطة محامين من دون أن يحدد أحد هويتهم، لكن مهما يكن الكلب ضاريا كثيف الفرو، ثخين الذيل، كبير الجسم ضخم الأسنان، يبقى الكلب كلبًا عندما يناديه سيده.

ونطَّلع في بعض القصص على الصراع بين القيم التقليدية وتيار التحديث الذي تمثله المدينة على حساب الحياة الريفية وقيمها في بعض الأحيان: في دمه تسري تقاليد أسلاف خالدين، أناس حرثوا أرضهم وحافظوا على كرامة رفيعة لم يجرحها مرور ثلاثة أجيال من العيش في المدينة، حيث حياة المدينة قاسية، والكلاب تنهش بعضها هناك، ويقتل الناس بعضهم كي يظلوا أحياء.

ويُمكننا أن نلمح في بعض نماذج القصص تأثيرات الملاحم الهندية، وبعض الطقوس الدينية المتبعة: لم يكن ينظر حتى إلى طفلة بعمر ستة أشهر، وكان يرى في كل امرأة أختًا أو أمًا، لم يكن يأكل طعاما محرما ولا يشرب الماء الذي شرب منه شخص آخر، ذلك كله كي يبقي جسده نظيفاً، ولم يكن يدس قدميه في حذائه إلا بعد أن ينقره ثلاث مرات كي يخلصه من الغبار ثم يتلو المنترا - مقاطع مُنغمة تتلى بغرض الامتلاء بالطاقات الروحية في مواقف معينة، أو تتلى وتردد كصلوات من أجل تنقية النفس والذهن وبلوغ الطهارة- المفروضة المناسبة، وإذا لمس شخصاً غير تقي عن طريق الخطأ، فإنه يستحم حالا.

وتبين بعض القصص في المجموعة بشكل وصفي دقيق الظلم الاجتماعي ومُعاناة بعض الطبقات في المجتمع الهندي: بعضهم يذكر المرء بفزاعة الحقول وهم يلبسون قمصانهم الواسعة التي استعاروها من إخوتهم الأكبر منهم، بعضهم الآخر، ذوو الأضلاع الناتئة والبطون المنتفخة والأرجل المنحنية الضعيفة، يُمكن تعريفهم كذرية بشرية فقط بالمعنى الإجرائي وبأقل قدرٍ من الشبه، ومنهم لم تعذره الكوليرا بوجههم المتعب وكأن العينين الكليلتين الباهتتين حفرتا حفرا فيهم، وطلبته للمجيء إلى ذلك المكان حيث لا حاجة إلى أعذار أو حجج للذهاب، لكن الله رغم ذلك هو الذي أودع ذهب الحياة الخالص في ذلك الجسد العليل والمتسخ.

كما تتناول المجموعة القصصية أعمال الشغب والفتنة الطائفية خاصة بين الهندوس والمُسلمين: حدث أمر ما فعلا، لكن لا أحد منِّا كان بإمكانه تحديده بدقة، سبق لي أن شاهدت حالات من أعمال الشغب الجماعية وصار بوسعي تمييز أي تغيير طفيف يحدث في الجو العام، أناس يركضون، أبواب تصفق بقوة، رجال ونساء يقفون فوق أسطح المنازل، صمت غريب يُخيم على الأجواء، كلها علامات على الشغب والمصادمات، ولم يكن قليلاً عدد الأشخاص المستعدين والراغبين في إثارة الخلاف بين الهندوس والمسلمين، أو التحريض على مشكلات أكثر خطورة فيما بينهم.

بلا شك يُقدم هذا الكتاب الذي يعكس في قصصه المختارة، تنوعا في تقنيات السرد، التي تحمل تأثيرات الملاحم الهندية العريقة مثل المابهاراتا والرامايانا، وطقوس وحكايات هندية أحدث عهدا، يقدم فرصة للقارئ العربي نحو توسيع أفقه، وتطلعه على تجربة أدبية، تتميز بثرائها وتنوعها،لشعب عريق.

في هذه الأيام ليس من السهل أن تحدد من هو اللص.