رواية "أرواح كليمنجارو":

سرد الذاكرة المفتوح على جرح غائر (4 - 4)


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات.
رابعاً ـ الشخصيات الأخرى تكمل دائرة الذكريات:


وثمة في الرواية شخصيات أخرى أضاءت الرؤيا والرؤية اللتين يسعى الكاتب إلى ترسيخهما في عقل القارئ وقلبه، فريما التي تعمل في مجال التسوّق، وجون طبيب التجميل، رسما خطوطاً إضافية تعمّق الإحساس بهمجية المحتل الصهيوني، فريما تشير إلى أنه "تبيّن بعد أن قررت نورة الصعود أنّ رجلها مبتورة من منتصف الفخذ، وأنها بذلك بركبة واحدة فقط، وأنّ الثقل أشدّ على منطقة وسط الفخذ التي لم تتم معالجتها أصلاً بشكل مثالي"، ص54.
كما تشير إلى أنّها "فوجئت بصعوبة استخدامه ليده اليسرى، فالإصابة المزدوجة التي تعرّض لها تمنعه من استخدام يده اليسرى؛ لأن الإصبعين الناجيين من الانفجار لا يتحركان"، ص55. وقد كان يشغل بالها، وهي الخبيرة الوحيدة في تسلّق الجبال، "أنّ الأطراف الصناعية التي يستخدمها يوسف ونورة غير ملائمة أصلاً لرياضة قاسية من هذا النوع"، ص55. وهذا ما يمنح صعودهما قدسية نابعة من صعوبة وضعهما وتكالب الظروف عليهما. بينما يترك جون ابنتيه عند أصحابه في دبيّ، ويلتحق بالرحلة ويجري حوارات معهما، ويعيد بعد الامور إلى سياقها الصحيح، فعندما رأى نورة ترفع إبهامها دلالة على وضعها الجيد قال لها: "ارفعي يدك بعلامة النصر (...) أنت فلسطينية، وما عليك أن تفعليه هو أن تذكّري الناس بأنك فلسطينية"، ص198.
والمهم في ترسيخ الرؤية والرؤيا ها هنا هو ذاكرة جون الطازجة التي ما زالت تحتفظ بصور القمع الإسرائيلي للانتفاضة الفلسطينية عام1987، خلال عمله طبيباً في مشفى المقاصد في القدس؛ حيث كانت قوائم الجرحى تطول ولا تنتهي، حتى إنها تصل إلى أحلامه، فتحوّلها إلى كوابيس مرعبة:
"فتح باب بيته، وقبل أن يخطو خارجه، وجد طفلة صغيرة ملقاة على العتبة، طفلة في الرابعة من عمرها. كان قد رآها فعلاً في مستشفى المقاصد في القدس، فقدت ساقاً ويداً، وأصيبت بحروق شديدة التهمت نصف وجهها (...) وعاد ليغلق الباب، لكنه حين وصله كانت هناك طفلة أخرى، وضعها على السرير وعاد، وهكذا كلما عاد ليغلق الباب وجد طفلاً أو طفلة (...) اتجه إلى الباب فوجد أن هناك طفلاً آخر على عتبته ببطن شقته رصاصة، وآخر بأمعاء مندلقة، وآخر بعين مفقوءة، وآخر بساق مبتورة، أو يد متدلية. استيقظ فزعاً"، ص80.
أما صوول الذي أتعبته كينيا، وهو يجري خلف الكرة، ويسجّل أهداف كثيرة بلا نتائج، فقد ذهب إلى تنزانيا لأنها بلد أبيه، وعندما رأى الجبل أحبّه ولم يعد يشغله غيره، فعمل في شركة سياحية تنظم الرحلات إلى قمة الجبل، وتدرّج حتى صار يعمل دليلاً فيها. ولقد كان لهذه الشخصية سحرها اللغوي الذي انتقل إلى الشخصيات الأخرى:
•    "هاكونا ماتاتا(1)" قال صوول بصوت عال.
ـ فردد كثير من أعضاء الفريق خلفه: "هاكونا ماتاتا".
•    "لوحت ريما للدكتورة أروى: "هاكونا ماتاتا".
•    "هاكونا ماتاتا"، رددت الدكتورة أروى."، ص64.
•    "ويّرا ويّرا(2)" صاح صوول، ورددت خلفه ريما: "ويّرا ويّرا" بفرح، فردد الفريق الصيحة"، ص56.
•    "صاح صوول: بولي.. بولي(3)".
•    "حراكا.. حراكا. صاح صوول فكان ذلك إيذاناً بالتوغل أكثر في السفوح العالية"، ص112.
•    "ـ مامبو سهام؟
ـ مامبو بوا، أسانتيه. أجابت(4)"، ص238.
هذه اللغة السواحيلية رافقت سهام إذ جاءها المخاض، إذ لم تصرخ في الطريق إلى المشفى، بل كانت تصهل مرددة: "ويّرا ويّرا"، وتقول للطبيبة التي تطلب منها أن تتنفس ببطء: "يعني: بولي بولي"، ص380.
وقد أحب صوول نورة ويوسف وتعاطف معهما، حتى إنه حين حمل نورة رجا الجبل ألا يخيّب أملها: "وهمس بقلبه محدّثاً الجبل: أنت تعرف أنني أحببتك أكثر من أيّ شيء آخر، وأنني اخترتك تاركاً كلّ شيء خلفي.. أرجوك أعطني القوة كي أوصلها إلى المخيم، أرجوك لا تعدها مهزومة إلى بيتها"، ص203.
لقد اقترب صوول ، اقتراباً نفسياً من الجبل، وها هو ذا يخاطبه في السياق السابق، ويطلب منه المساعدة، من موقع الضعيف أمام قوة الجبروت، فيخاطبه، ويبثه أمانيه، مثل شخصيات الصعود جميعها، في سرد مثير يذكّر بعلاقات إبداعية سابقة مع هذا الكائن من مثل علاقة ابن خفاجة ومجنون ليلى(5).
وإلى جانب صوول أسهم السارد بقسط لا يستهان به من الذكريات التي يسعى المؤلف إلى ترسيخها، فحدّث القارئ عن غزة التي لم تكن "ذلك المكان الذي يمكن أن يضحك فيه المرء طوال الوقت"، ص25، لأنّ الجنود يمارسون القمع الدائم ويحوّلون القتل إلى لعبة مسلّية: "كانوا يمارسون لعبتهم المفضّلة: القنص. كل من أو ما كان يظهر في منظار البندقية كان هدفاً جيداً بالنسبة لهم: امرأة، رجل، طفل، حمار، معزاة، حصان، كلب"، ص91. حتى إنّ يوسف نفسه يصاب حين ينحني ليلتقط علبة نحاسية صغيرة؛ حيث انبثق "برق شديد أمامه، بحيث لم يمنحه فرصة سماع صوت الانفجار (...)"، ص93.
أمّا غسّان الذي رافق د. أروى في قلبها و"كان يحدّق في الأرجاء، ووحده الذي بدا سعيداً بأنّ كل ما حوله شاسع ولا أثر للجنود"، ص123، فقد ناله من عدسة السارد حظّ وافر يسوّغ هذا الهلع الذي يصيبه من فكرة مغادرة المنزل الذي يضيّق المستوطنون على أهله، ويصرّون على الاستيلاء عليه بمختلف الطرق، ويمكن لنا أن نقرأ السياقين التاليين:
•    "يتذكّر غسّان كيف فتح المستوطنون أنابيب المياه المضغوطة على البيت عبر الشباك الصغير"، ص100.
•    "قولي لزوجك المجنون أن يقبل بما نعرضه عليه، اليوم أو غداً سنأخذ البيت"، ص155.
كما كان المستوطنون يطلقون النار من النوافذ حتى يرهبوا أصحاب البيت، وكانوا يصيبون صورة ابنتهم الشهيدة وابنهم الشهيد، فيخيّل لأم غسان أنهم يقتلونهما من جديد، فتعود لصاحب الاستوديو لتأخذ من عنده الصور مرة أخرى:
"ـ قتلوهم مرة أخرى يا خالتي؟
فتردّ: قتلوهم مرة أخرى.
يناولها الصور الجديدة، وحين تمدّ يدها إليه بالنقود يهزّ راسه رافضاً المبلغ بصمت"، ص157.
كما أسهم السارد في كشف جوانب أخرى من شخصية جبريل، ليدين من خلاله الفساد في المؤسسة الرسمية الفلسطينية، فهو "صورة مطابقة تماماً لواحد من رجال السلطة الذين زاروا يوسف بعد الانفجار، وحرص على التقاط عدد كبير من الصور معه"، ص89، ذلك المسؤول الذي ظهر على الصفحة الأولى لإحدى الجرائد. و"يضحك بسعادة غامرة بين مجموعة من المسؤولين الإسرائيليين"، ص90. وبالإضافة إلى الخدم والحشم الذي أمنته له دولاراته في أثناء الرحلة، فقد كان يبدي انزعاجه من أي شيء، حتى من خلال وقوفه في آخر طابور المتسلقين، على الرغم من أنّ هذا الترتيب يضع في الأمام من يحتاجون إلى الرعاية، وكأنه يفترض (وهو السليم المعافى) أنه أحق بالرعاية من الآخرين، أو أنه لا يقبل أن يكون في الخلف مهما كانت المسوّغات: "تأملت أروى الطابور: خلف ريما كان يوسف، جون، نورة، صوول، غسان، أروى، خلفها: سهام، هاري، نجاة، سوسن، إميل، جبريل.
لسبب عميق لم يكن جبريل سعيداً بهذا الترتيب، بل كرهه"، ص114.
وقد بلغ به النزق مبلغاً جعله يخرج عن اللباقة في إحدى محطات الصعود، يتقدم فيطلب منه صوول ألا يعود لمثلها لأنه أتعب نفسه وصار يلهث:
"ـ هل تستطيع المواصلة سيّد جبريل؟
ـ اغربْ عن وجهي"، ص183.
*          *         *
ويمكن القول باختصار إنه على الرغم من أنّ الرواية سارت بأحداثها ضمن منحى تعاقبي، تكسره استرجاعات الشخصيات، فقد جرّبت لعبة فنية طريفة، من خلال الإيهام بوجود شخصية رئيسية فيها في مسرح الحدث، وكانت مخلصة من خلال ذكريات شخصياتها للرؤية التي سعت إلى ترسيخها، ومن خلال اللغة التي استثمرت المثل الشعبي في منح الشعب الفلسطيني حصانة حضارية عصية على الاقتلاع، ومن خلال الحكايات الرئيسية والفرعية التي قدمها السرد. وإذا بدا لنا في بعض الأحيان أن عدداً من الحكايات غير لصيق بالحكاية المحورية (من مثل حكايات فصول: "ليلة الحقل"، و"أسد وغزالتان ونعامة"، و"عن الخوف الغضب")، فيكفي الكاتب أنّها لا تبتعد كثيراً عن المصبّ الذي انتهت إليه الحكايات جميعاً.
..........................
مصادر المقالة:
1)    (كل شيء بخير).
2)    (هيّا.. هيّا).
3)    ببطء.. ببطء.
4)    مامبو، تعني: ما أخبارك؟ مامبو بوا، أسانتيه، تعني: رائعة، شكراً لك.
5)    قصيدة التي يحاور فيها ابن خفاجة الجبل مشهورة جداً، ومطلعها:
بعيشكَ.. هل تدري أهوجُ النجائبِ.... تخبّ بصدري أم ظهر النجائبِ
ويمكن للقارئ أن يطلع عليها في : ديوان ابن خفاجة (تحقيق: عبد الله سنده)، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2006، ص ص 47-49.
6)    أما قصيدة مجنون ليلى، فهي مقطعة من ستة أبيات، يتحدث فيها عن جبل الثوبان، ومطلعها:
وأجهشتُ للثوبان حين رأيتهُ.... وكبّر للرحمن حين رآني.
ويمكن قراءة الأبيات في: ديوان قيس بن الملوّح (مجنون ليلى): دراسة وتعليق: يسرى عبد الغني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999، ص64.
مصادر الدارسة كلها ومراجعها:
1.    القرآن الكريم.
2.    إبراهيم نصر الله: أرواح كليمنجارو، ط1، 2015.
3.    آرنست همنغواي: ثلوج كليمينجارو، دار العلم للملايين، بيروت، 1977.
4.    د. حسني محمود: أدب الرحلة عند العرب، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1983.
5.    حميد لحمداني: بنية النصّ السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء ـ طـ1، 1991.
6.    دانيال تشاندلر: أسس السيميائية (ترجمة د. طلال وهبة)، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، نوفمبر، 2008.
7.    ديوان ابن خفاجة (تحقيق: عبد الله سنده)، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2006.
8.    ديوان قيس بن الملوّح (مجنون ليلى): دراسة وتعليق: يسرى عبد الغني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1999.
9.    د. سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة (عرض وتقديم وترجمة)، دار الكتاب اللبناني ـ بيروت، سوشبرس ـ الدار البيضاء، ط1، 1985.
10.    السيد عبد الرحيم: قضايا ومشكلات في سيكولوجية الإعاقة ورعاية المعوقين: النظرية والتطبيق، الكويت، دار القلم، 1983.
11.    سيزا قاسم: بناء الرواية (دراسة في ثلاثية نجيب محفوظ)، دا رالتنوير، بيروت، طـ1، 1985.
12.    د. عبد المطّلب أمين القريطي: سيكولوجية ذوي الاحتياجات الخاصة وتربيتهم، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
13.    محمد بن سيرين: منتخب الكلام في تفسير الأحلام، اعتنى به ورتّبه: محمود طعمة حلبي)، دار المعرفة، بيروت، ط5، 2002.
14.    محي الدين بن عربي: الفتوحات المكّية، المجلّد الأول، نسخة ألكترونية.
15.    د. يوسف حطيني: مكوّنات السرد في الرواية الفلسطينية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999.

تعليق عبر الفيس بوك