تباريح "هبة" وعنفوانها

 

عبيدلي العبيدلي

ساقتني الصدف كي تقع بين يديَّ "تباريح" لكاتبتها "هبة المقدم". والتباريح عبارة عن أحاسيس ذاتية نقلتها "هبة" بأسلوب شيق مفرط في شفافيته، فيما يشبه حوار خاص مع الذات، وفي غاية الصدق مع الآخر. أما "التباريح" لغة، فهي الشدائد والمصائب، لكنها عندما تصف الحب فهي تكشف عن "تَوَهُّجُه، ولَوْعَتُه، وتكاليفه". وهذا ما يجده القارئ واضحا في كل صفحة من صفحات "مدونة هبة" عندما تتحدث عن تجربة شخصية يبدو أنها عاشتها بكل ما حملته من مرارة وألم يطلان على القارئ بإلحاح في كل سطر من أسطر الكتاب.

من الناحية الأدبية المحضة يقدم الكتاب " أنت في البعد أحلى" نفسه كمعرض فني. فكل صفحة من صفحاته هي لوحة قائمة بذاتها، تعكس أحاسيس الفنان، والذي هو الكاتبة هنا، بصدق وشفافية، قبل أن تتماهى فيها الذات مع وقائع التجربة، بكل ما حفرته هجرة الحبيب التي تبدو وكأنها غير مفاجئة، ومرت عبر مراحل، مع صدق إصرار صاحبتها على التمسك بثقتها اللامحدودة بالله، كما نلمسه واضحًا حين نقرأ ذلك في أول صفحات الكتاب:

"إهداء خاص جدا

إلى الله

الوحيد الذي طرقت بابه ولم يخذلني".

حتى عندما تخاطب "هبة" حبيبها الذي تركها دون أن يخبرها بما يقف وراء ذلك الهجران غير المبرر، ولا المفهوم، تعود إلى ربها مستنجدة به، فنقرأ لها:

"وتبدأ الرسالة ... سأروي للعشاق عم أحببت فيك...

ليحاكمك الله (لاحظ هنا الله هو الذي يحاكم، وليس هبة) إنك لم تكن رجلا كأنبياء الله

الصالحين".

بين ثنايا الكتاب يلمس القارئ لوعة "هبة" لما أقدم عليه حبيبها، دونما أي تفسير، تبدو واضحة حين تخاطب حبيبها قائلة مجروحة بموجة عالية، وعاتية من الألم:

"فيومك ثقيل كظلي في غيابك وكلماتي تائهة في أصابعي (الكلمات مغروسة في أصابعها عندما تاهت)

أبحث عنك هنا بين الحرق والزمن.

.....

أنا لا أكتبك ترفا وزهوا وطمعا بكثرة المعجبين

بحزن الكلمات".

 

اختارت هبة الزمن ملاذا تبث بين دواليب حركته لوعتها، فتوزعت محتويات الكتاب على أربعة فصول، تعمدت هبة أن تسردها وفق معادلتها الخاصة بها، وتصفها أيضا على النحو الذي تراها هي به.

فالفصل الأول وهو الصيف، الذي تعتبره مداخل قاموس هبة "الصدمة حالة الانهيار". أما الخريف فهو "القبول والمقاومة". في حين يأتي الشتاء كي يعبر عن "صراع الحضور والبعد".  والربيع هو "البدايات العذبة واللقاءات".

المتضادات واضحة هنا ولا يحتاج القارئ إلى بذل الكثير من الجهد، كي يكتشف حالة التناقض الحادة التي تسيطر على مشاعر الكاتبة، وترغمها، وفي حالات كثيرة، دون وعي، أو قرار مسبق، إلى الكشف عن أحاسيس غير ائتلافية تجاه ذلك الهاجر الذي ما تزال ترفض أن تقبل بأي تبرير ساقه يصفح له عما تعتبره "هبة" جريمة رحيله واختياره أن يكون بعيدا، ورغم ذلك تراه "هبة"، ودون تبرير منطقي يقنع القارئ، أنه "في البعد أحلى".

هذه الأحاسيس المتناقضة تتوزع على صفحات الكتاب وتتكرر صورها على نحو في غاية الإبداع على امتداد تلك الصفحات، فتكشف صدق التجربة، وشفافية صاحبتها. فهي تصف هاجرها قائلة:

"كنت شهياً كرغيف خبز لمؤمن طال صيامه...

كنت بطولياً كفارس يغمد في خصره سيف الحق والجمال".

هبة هنا هي الصائمة التي طال صيامها، فنجدها ترى في كسرة الخبز المحرومة منها أشهى الأطعمة، وحبيبها فارس يغمد سيفه في خصره هو، وليس في خصرها، فكأنما تقول له أنت من تضحي ولست أنا، مبررة له لحظة من لحظات "هروبه" غير المفاجئ، لكنه غير المفهوم.

تكتظ "التباريح" بمجموعة من الصور التي تبهر عيون القارئ وتتركه أمام علامات استفهام كثيرة وكبيرة عندما يجد نفسه أمام مقطع يقول:

"التاريخ...

فالتاريخ عادل جدا كما القدر...

أصغ إلى صمتك..

لا تنتظر أحدا..

إن الانتظار يكسرك..

وإن لم يقو على كسرك قتلك..

من ترك تشابك أصابعك عن يديه...

اتركه على قارعة الطريق ولا تلتفت..

ازرع زهرة توليب في بيدرك الذي سيحترق...".

هنا دعوة تبدو وكأنها حث على الانتقام، لكن "هبة" تتراجع عن ذلك وتعود كي تناشد المجهول بأن يزرع زهرة التوليب في بيدر سيحترق.

هذا فيما يتعلق بالتباريح، لكن للمخطوطة بعد آخر له صلة بما يمكن أن نعرفه بالعنفوان. وعنفوان هبة من طراز مختلف عن المعهود. فالعنفوان لغة هو "باكُورَة، نَشَاط، نَضَارَة". لكنها تتجاوز كل تلك المعاني كي تحط عند معنيين اختار الأول منهما نزار قباني في قصيدته الرائعة "أنا مع الإرهاب"، التي يقول فيها:

متهمون نحن بالإرهاب

إن نحن دافعنا بكل جرأة

عن شعر بلقيس ...

وعن شفاه ميسون

إلى أن يقول فيها

بالأمس ...

كان الشارع القومي في بلادنا

يصهل كالحصان

وكانت الساحات أنهارا

.... تفيض عنفوان

والثاني منهما جاء على لسان الأديب المغربي أحمد بنميمون، في قصيدته "مباهج ممكنة"، حين يقول:

لم يطب نفسا من الأوتار

خلقا عبقريا وابتكار

إنه يطلب ما لم يبلغ الحس فيجلو

نبوي الحس ما سر الحياة

عنفوان اللحن أن يتحد الجزئي بالكل

حتى ترفع الحجب عن القلب يداه.

هنا يتحول العنفوان كما جاء في مقاطع من سيمفونية هبة إلى ما يشبه التمرد الداخلي على الذات، ورفض خارجي لما يفرضه المجتمع، فتبدو وكأنها شبيهة بانتماء نزار للإرهاب، واتحاد الجزء بالكل عند بنميمون. أما عند هبة فهو قولها:

إن الصبح عالق بين الورد والندى

والعصافير حائرة بين الشجر وأجنحتها

وأنا واقفة بين الساعات أركض معها كي أجدك

رغم أني أشك في أن ألقاك عما قريب

فالعدل على الأرض مذبوح ... وأنا مشردة

أنا ذلك الزخم والنور في زجاج مكسور.

هنا يحس بها القارئ كأنها تقول "أنا ذلك العنفوان والنور في زجاج مكسور."

 لقد كشفت تباريح "هبة" وعنفوانها عن حالة تمرد مطلوبة عبر عنها صدق موهوب، تختزنه طاقة أدبية واعدة.