اخطئ.. اخطئ في غياب الحوكمة

 

د. سيف بن ناصر المعمري

 

لو سألنا أي خبير في قضايا ما الذي يمكن أن يهدد التنمية واستدامتها في أي بلد؟ لأجاب بدون تردد غياب الحوكمة الجادة والحقيقية التي يُمكنها أن تمنع التساهل بمصالح المستفيدين من وجود المؤسسات وهم المواطنون والخدمات التي يمكن أن تقدم لهم على أكمل وجه، وتبرز أهمية الحوكمة في كونها تقلل من حضور الفساد.

ولذا فالبلدان التي أعطت أهمية كبيرة لحوكمة الإدارات المحلية قللت من فرص ظهور الفساد والتهاون في تحقيق مصالح المواطنين، والتوظيف الأمثل للموارد، والكفاءات البشرية بما يكفل تحقيق أقصى جودة بأقل موارد في أقصر وقت، وإن كانت الحوكمة قد ظهرت في مجال الشركات بداية خاصة بعد الانهيارات الاقتصادية التي حدثت أكثر من مرة في العقود الأخيرة في أكثر من منطقة في العالم، إلا أنَّ هذا لا يعني أنها ممكنة فقط في القطاع الخاص حيث أطراف العملية واضحين من مساهمين ومجلس إدارة وإدارة تنفيذية، فالقطاع الحكومي في أمس الحاجة إليها للخروج من شرعية إباحة الخطأ والتمادي فيه، أو الإغراق في الإهمال الذي ينتج عنه خسائر يتضرر منها الجميع، ولا يدفع ثمنها إلا المواطنون الذين لم يكن لهم أيّ دور في إنتاجها إلا السكوت عنها، والتفرج على مرتكبيها وأحيانا تزيين الأخطاء لهم خاصة من قبل وسائل الإعلام التي لم تعد في أكثر ما تقدم سلطة لكشف الحقيقة إنما سلطة لطمسها، وتصعيب الطريق أمام فرص الحوكمة الضئيلة جداً جداً على مستويات القرار العليا المرجعيات الرئيسية المؤتمنة على أهداف المؤسسة وتخطيطها ومشاريعها وإدارتها بما يكفل الرخاء للمواطنين وتيسير أمور حياتهم، فلماذا لا يكون هناك تماديا في الأخطاء طالما لا يوجد نظام حقيقي للحوكمة والمُحاسبة؟

نطرح هذا السؤال ونحن نتابع ما جرى خلال الأسبوع الماضي من قضايا اقتصادية وتعليمية واستهلاكية هي لم تحدث للمرة الأولى، إنما متكررة عامًا تلو الآخر، وهناك غيرها من القضايا التي لا تزال تضرب المشروع التنموي منذ سنين، لكن لا يوجد دائمًا كشف حساب ولا مُحاسبة للمتسببين فيها، استراتيجيات طويلة لم تنفذ، وسياسات لا تساعد على تحقيق الطموحات، وبرامج تبدأ ولا تكتمل، وبيروقراطية يزاد تعقدها، ومؤسسات تمضي بدون مُراجعة لإنجازاتها في ضوء أهدافها، وأموال كثيرة أنفقت في مشاريع لم تكتمل، وشفافية غائبة في ما يعرض من بيانات وتصريحات من بعض المؤسسات، ومستفيدين (مواطنين) لا حق لهم في الاعتراض على هذه الأخطاء أو الإخفاقات وإلا تقلب عليهم الطاولة، فبدلاً من أن يكون متأثرين يصبحون مؤثرين سلبيين ومعيقين لقيام المؤسسات بعملها، وفي ظل هذا الواقع أصبحت الحوكمة مقلوبة، فبدلاً من وجود نظام لحوكمة المؤسسات وأدائها وإنجازاتها ومدى كفاءة أجهزتها، أصبح لدينا نظام لحوكمة المستفيد والمنتفع الأول من كل ذلك، والذي يُطلق عليه بأنه "غاية التنمية" أي الغاية النهائية لعمل كل هذه الماكينة الحكومية؛ حيث وضعت كل المؤسسات لائحة بالعقوبات التي يمكن أن تطال المواطنين أثناء تفاعلهم مع مؤسساتهم الخدمية – وهذا ليس خطأ – إن صاحبه أيضاً نظام واضح بيد المواطن لحوكمة المؤسسة في حالة خطئها مع المواطنين، أو في حالة تبديدها لأموالهم ووقتهم والمشاريع التي سوف تجلب لهم فوائد، وتصبح المؤسسة ضحية لتجني المواطنين وعدم قناعتهم وشكرهم وحمد الله على أنها لا تزال تهتم بهم، وبدلاً من حراسة حق المواطنين تتحول الحراسة إلى المؤسسة لحمايتها من عدم تفهم المواطنين وعقلانيتهم وقبولهم لأي شيء حتى لو كان سوف يسبب متاعب لهم ولأولادهم سواء في الحاضر أو المستقبل القريب، وبدلاً من أن تُعطي المؤسسة أهمية لكل ما يقلق حياة المواطنين وتفتح أبوابها العليا لهم في مثل هذه المواقف، تدير ظهرها لهم وتطلب حراسة تحميها منهم، هل تحول المواطن العماني الوديع الذي تنقل لنا وسائل إعلامنا تقارير الآخرين من الخارج عن وداعته وفطرته وسلميته وعفويته إلى خطر على مؤسساتنا؟

لا شك أنَّ الحوكمة الحقيقية والشفافة هي أفضل سياج للتنمية التي نعد لها الاستراتيجيات طويلة المدى اليوم، كيف يمكن أن نضمن تنفيذ هذه الخطط إن لم نضع نظاما صارما للحوكمة، نظامًا يكفل لجميع المواطنين في هذا البلد مسؤولين صغارا أو كبارا، متخذي قرار أو موظفين حقوقهم، ويكفل لهم المساواة في المحاسبة، فلا نشكل مجلساً كبيرا نقتاد إليه صغار الموظفين الذين لا حول لهم ولا قوة والذين لا يتجاوز خطؤهم عدم الضغط على البصمة الصباحية أو المسائية أو التغيب ليوم بدون عذر، في حين نغفل عن تشكيل هذه اللجان العليا لمن يبددون ملايين الريالات في مشروع فاشل، أو مناقصة مُبالغ فيها، أو إهمال لسنوات يقود إلى إهدار كفاءة الموارد البشرية، أو تأخير قوانين مهمة لتحقيق الرخاء؟ هنا نحن نقدم شرعية أن الخطأ ليس له ثمن، وبالتالي ليس له حدود، ولا يتطلب أي حرص، ولا أي تدقيق، ولا أي إفصاح عن بيانات دقيقة ومهمة عن عمل المؤسسة ومشاريعها، هل نعلم كم عدد المشاريع التي لم تستكمل في بدايتها أو في منتصف تطبيقها رغم ما خصص لها من أموال ليس لسبب إلا لمزاجية متخذ قرار أو لخلاف بينه وبين من سبقه، هل قيمنا أقسام الجودة في مؤسساتنا؟ ما الذي حققته لتمكين الحوكمة الداخلية؟ هل راجعنا مؤسسات الرقابة الخارجية؟، وما الذي حققته، هل لدينا بيانات سنوية عن كل مؤسسة في هذه المؤشرات المتربطة بالحوكمة: استراتيجية المؤسسة وخطط العمل والموازنات وسياسة المخاطر وأهداف الأداء والمراجعة والتنفيذ، مؤشرات أقسام الجودة عن الحوكمة الداخلية، الرواتب والمكافآت وأنظمة الإشراف على أداء كبار متخذي القرار في المؤسسة، شفافية التعيين والأداء داخل المؤسسة هل هي خاضعة لنظام شخصي أم نظام مؤهلات وأداء، هل هناك تضارب مصالح في أداء المؤسسة وكيف يُمكن القضاء عليه، هل توجد رقابة مالية ورقابة على العمليات المختلفة التي تجري في اتخاذ القرارات داخل المجالس المختلفة التي تتكون منها المؤسسة، هل هناك أفصاح عن الإخفاقات وتأخر المشاريع وتغيير البرامج والخطط والسياسات وتوضيح الأسباب أم أنَّ ذلك لا أحد يسأل عنه حتى لو ظلَّ مُتخذ القرار أكثر من عشرين سنة في مكانه، لأنه يتمتع بحصانة لا يُمكن لأحد أن ينتهكها، فهل نريد حصانة لمتخذ القرار أم للمستفيدين من المواطنين؟ وهل نريد حصانة للوقوع في الأخطاء أم حصانة لتجنب الوقوع في الأخطاء؟ تلك الأسئلة لابد أن نناقشها إن أردنا للحوكمة أن تنتعش، وللتنمية أن تزدهر، إن تجاهلناها فذلك دعوة للجميع أن اخطئ اخطئ طالما لن يُحاسبك أحد.