عبيدلي العبيدلي
يتحرَّك الزمن بسرعة، ربما لا تكون ملموسة لدى البعض منا، وتقربنا حركته من موعد انتخابات 2018 النيابية في البحرين. ومع اقترابنا منها تسود نقاشات الشارع البحريني حوارات ساخنة تتمحور جميعها حول ثلاثة مداخل مفصلية تنطلق من خلفيات مختلفة، لكنها تقود في نهاية الأمر، وهو ما يؤسف له، نحو نتيجة واحدة تقول بعدم جدوى البرلمان، وتدعو إلى وضع حد لاستمراره في أداء مهامه كمؤسسة.
المحور الأول، والذي يمكن وصفه باليائس، وهو الذي يصر على عدم جدوى البرلمان، فهو في صورته الحالية مصدر نزيف هائل للموارد المالية، في وقت تمر فيه البحرين بمأزق مالي يكاد أن يهد أعمدة نظامها الاقتصادي، الذي بنته منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمان. ومن ثم، وهذه محصلة هذا المدخل، يكمن الحل في إغلاق البرلمان، وتوجيه "موازنته الضخمة" المنهكة لاقتصاد البلاد، نحو مشروعات تنموية نحن في أمس الحاجة لها.
المحور الثاني، والذي يمكن أن نُطلق عليه المحبط، وهو الذي يعبر عن قناعات راسخة بعدم جدوى البرلمان في ظل الظروف الراهنة. ويدلل على صحة مقولته بشرح مسهب حول "تخلف" الوعي السياسي العربي، والبحرين ليست حالة استثنائية له، ومن ثم لا يمكن لبرلمان، مهما بلغت كفاءة أعضائه، ونزاهتهم، أن يمارس دوره المطلوب على نحو صحيح، طالما استمرت الظروف القائمة. ومن ثم، وطالما ليس هناك ما يوحي باحتمال تغير الظروف الراهنة، فمن الأجدى التخلص من المنظمات "الترفيهية" غير "الضرورية"، التي يأتي البرلمان في رأس قائمتها.
المحور الثالث، والذي يُمكن أن نطلق عليه المتشائم، هو الذي يستدعي الفترة الزمنية، ويرى أن محصلة أداء البرلمان خلال ما يقارب من عقدين على تأسيسه "هزيلة"، من وجهة نظره، ولا تبرر النفقات الباهظة التي كلفت الدولة، ولا الوجاهات الاجتماعية التي بات يتمتع بها من نجح في الوصول إلى قبته. وبالتالي، فلم يعد هناك ما يبرر الاستمرار في خطأ باتت مضاره تتفوق بما لا يقاس على فوائده.
في حقيقة الأمر ليس هناك من يختلف على أن أداء البرلمان ليس الحالي فحسب، بل حتى في دوراته السابقة، دون التعرض لأي نائب ممن انتسب لعضويته، لم يرق إلى الطموحات التي صاحبت انطلاقه كمحصلة طبيعية لما جاء به المشروع الإصلاحي، وكان من بينها الدستور وميثاق العمل الوطني. لكن هذا "التردي" في الأداء، إن جاز لنا القول لا ينبغي أن يكون، بل من الخطأ القاتل أن يكون، مقدمة لنتيجة تدعو إلى اليأس من البرلمان، وتروج لإغلاقه.
وقبل الدخول في أية مناظرة تدافع عن البرلمان الحالي، لا بد من الاعتراف بأنَّه وإن كانت النسخة الأخيرة هي الأسوأ، فإن المسؤولية المباشرة تقع على المواطن، سواء لأن الأفضل بين المواطنين، والأكفأ بين صفوفهم لم يتقدموا تلك الصفوف كي يرشحوا نفسهم. أو لأن أولئك المواطنين أنفسهم هم من أدلوا بأصواتهم التي أوصلت المترشحين إلى قبة البرلمان. ومن ثم، فالمسؤولية الكاملة تقع على عاتق المواطن البحريني الذي آن الأوان كي يستخدم ورقة الاقتراع كي يدلي بصوته من منطلقات وطنية خالصة بعيدا عن التخندق الطائفي، او الرياء السياسي، او كلاهما معا.
بعدها، نعود للقضية التي نحن بصدد الحديث عنها وهي البرلمان. فلو استخدمنا المنطق ذاته في تقويم أي من المؤسسات التي تنظم حركة المجتمع المدني، وفي مقدمتها الدولة، فربما نصل إلى النتيجة ذاتها. فعدم رضى المواطن عن أداء هذه الوزارة أو تلك، لا ينبغي أن يقوده إلى إغلاق أبوابها بالشمع الأحمر، وتسريح من ينتسبون لها في الشوارع. فهذا المنطق يقودنا حتما نحو تقويض كل المؤسسات التي تدل على تطور المجتمع، وتستجيب له، وتعمل على الوصول بأدائها إلى أفضل المستويات. فشلها في ذلك لا يقود إلى المطالبة بالاستغناء عن خدماتها كما هو حاصل مع البرلمان.
نقول ذلك دون تمسك، كما قد يتوهم البعض بالدفاع عن أي ظاهرة خاطئة، بما فيها البرلمان نفسه، وإنما بالإصرار على أن وقف عمل تلك المؤسسة لا يوصلنا إلى الحل المنشود، بل ربما يقودنا نحو نهايات أسوأ.
فالبرلمان في جوهره، وعند البحث عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء فكرة أنشائه، هو بناء قناة منظمة تحسن احتواء الصراعات الوطنية داخل مؤسسة واحدة تضمن الوصول إلى قرارات صائبة عبر حوارات مجدية، مهما بلغت سخونتها، لكنها تكون بديلة لحل تلك الخلافات عبر طرق أخرى عنيفة، ووسائل صدامية، تحرم المجتمع من السلام الذي يسعى جاهدا للوصول إليه. وعليه؛ فوظيفة البرلمان الأساسية هي نقل الصراع من صيغه المباشرة، والعنيفة إلى أخرى أكثر تحضرا، وأجزل مردودا.
وبالتالي؛ فمهما تراجع أداء البرلمان، أو تدنَّت مواصفات من نالوا عضويته، لكنها جميعا تبقى أقل ضررا، وأكثر جدوى من مجتمع يخلو من سلطة تشريعية، تنظم سير أعمال المجتمع، وتضبط إيقاع العلاقات بين أفراده ومؤسساته. وكل بديل لذلك سيقودنا نحو مجتمع أعرج، خطوات تقدمه مرتبكة، إن لم تكون عوجاء، دون أن يعني ذلك القبول ببرلمان لا يرقى إلى طموحات المواطن، وقادر على تلبية احتياجات ذلك المواطن، ليست الشخصية الخاصة، وإنما المجتمعية العامة أيضا.
وطالما ليست هناك وسيلة متوفرة لبناء برلمان يتمتع بتلك المواصفات سوى القناة الانتخابية، وورقة التصويت التي يملك المواطن وحده دون سواه حق ملئ بياناتها، ترتقي ممارسة التصويت إلى مستوى المسؤولية الوطنية، بوصف كونها الوسيلة الوحيدة القادرة على "ترشيح" القوائم الانتخابية، و"تصفيتها"، بعد التمييز بين الغث والسمين ممن يترشحون للمقاعد النيابية.
لهذا، وكي لا يقودنا المنطق الأرسطي الصوري إلى الاستغناء عن المواطن الذي لا يحسن أداء دوره المجتمعي على الوجه الأفضل، بدلا من إصلاحه، وتقويم اعوجاجه. ومن أجل تحاشي فهم ما ندعو إليه بشكل خاطئ، مفاده الدفاع عن برلمان "غير مقنع"، نؤكد أن البرلمان الذي نتوق إليه هو ذلك القادر، وبكفاءة عالية على احتواء الصراعات تحت قبته، بعد أن يحول دون انفجارها بعيدا عن رقابته، وخارج إطار نفوذه، ولا يمكن ان نصل إلى ذلك ما لم تكن هناك مشاركة واسعة، لكن بمقاييس واعية، وقيم مسؤولة، تكون الطريق الذي يوصلنا نحو البرلمان الذي نصبو إليه جميعا.