ثقافة القطيعة في دولة الاستقلال العربي

علي المعشني


قامت دولة الاستقلال العربي على جُملة من الأخطاء البنيوية منذ نشأتها ولغاية اليوم، وهذه الأخطاء شكلت لاحقًا موروثًا صلبًا وحاضنًا عميقًا للتخلف، والجهل ومدخلًا لتشظي مكونات الدولة وتدافعها السلبي رغم كل مظاهر التماسُّك والتناغم.
أبرز مُعضلات دولة الاستقلال العربي، وأشدها فتكًا وعمقًا هي الدولة القُطرية، وموروثها السلبي، ودورها الرئيس في تكريس الشتات والفرقة والوهن، وغياب المشروع العربي النهضوي، وصولًا إلى الدور الوظيفي للدولة القُطرية -طوعًا وكرهًا- في رعاية مصالح خصوم الأمة وأعدائها، وإجهاضها لأي مشروع تكاملي أو وحدوي أو تضامني للأمة؛ فالغرب والعرب يُدركون أنَّ أي وحدة للعرب -شاملة كانت، أو أقليمية، أو حتى تكتلا سياسيا فاعلا- تعني أفول نَجْم الغرب وسطوته وتأثيره، ونهوض الأمة العربية وسطوع شمسها مجددًا. ثم تأتي مُعضلات ومُشكلات ظاهرة أصغر وأقل خطرًا وهي واحدة من كيان الدولة القُطرية وثقافتها، وتشكل تحديًا لدولة الاستقلال العربي كالتنمية الشاملة والموارد الطبيعية والبشرية، وكيفية استغلال هذه الموارد وإدارتها لتحقيق تنمية حقيقية شاملة.
حديثنا هنا لن يتعرَّض لما ورد أعلاه من ظواهر ومشكلات -رغم أهميتها وحضورها- لأنها تمثل رأس جبل الثلج الذي يُطل علينا ويُدركه الغالبية منا إن لم نقل جميعنا، وسنتحدث عن باقي مكوِّنات الجبل المخفي تحت الجليد، والذي يمثل الحلقات المفقودة دائمًا، والداء العضال في توصيف حالة دولة الاستقلال العربي، والبحث عن حلول لمعضلاتها والتماس النهوض.
هناك حالتان خطيرتان في تقديري تُشكلان حجرَ الزاوية في تعطيل نهوض الدولة القُطرية، تضافان إلى ما سبق؛ هما: العصبية (القبلية، الدينية، المذهبية، المناطقية)، وثقافة القطيعة ما بين الحكومة والشعب، وامتدادها لمظاهر قطيعات أخرى بين مكونات الشعب الواحد، أو بين نُخبه، أو مؤسسات الدولة وخلافه.
أخطر حالات القطيعة وأشدها فتكًا بالدولة هي القطيعة ما بين الشعب ومنظومة الحكم، وهي حالة شاخصة وحاضرة بقوَّة في دولة الاستقلال العربي، وتكمن خطورتها في عدم إدراك الكثير لها من خاصة وعامة، رغم الظواهر والأعراض التي لاتُحصى.
فالشعوب العربية حَكَمتها نُظم بالوراثة أو الغلبة أو الأمر الواقع، ورغم تفاوت منسوب الوطنية والاجتهادات للبناء والتطوير في كل نظام، إلا أن الشعوب بالمجمل تشعر بوطء الإكراه والقسرية من قبل من يحكمها، وتشعر بفجوة كبيرة تتسع بينها وبين حكوماتها، رغم كل مظاهر الولاء والتعايش، والتي أوجدها تفاوت القوة بين الشعوب والحكومات، والتي لم تُختبر كذلك لتبيين ماهية هذه الولاءات والمشاعر ومدى صدقيتها وحقيقتها وعمقها.
ثقافة القطيعة أنتجت حكومات موتورة تتعاقب على السلطة، وشعوب مقهورة تمارس الإضراب الخفي حفاظًا على سلامتها ولقمة عيشها فقط لاغير؛ حيث لا يشعر المواطن العربي بأنه معنيٌّ بالحكم أو رسم السياسات أو الخطط، رغم أنه محور التنمية وهدفها الأساس، وهذه الثقافة يدفع ضريبتها الوطن للأسف.
كشف لنا ما سُمِّي بـ"الربيع العربي" حجم تراكم ثقافة القطيعة في نفوس الشعوب، ذلك التراكم السلبي الذي سمح للبعض ببيع أوطانهم وعدم الممانعة في أن يكونوا بنادق للإيجار في دمارها، وقتل أشقائهم وشركاء الوطن بلا رحمة أو شفقة، وعلى أي أساس كان -دينيًّا أو مذهبيًّا أو قبليًّ أو مناطقيًّا- فالخيانة على ما بدأت لا تحتاج إلى تجنيد دائمًا، بل إلى بُنية جهل في كثير من الأحيان تفقد الناس صوابهم وتجرهم كالقطيع إلى حتفهم.
القطيعة وثقافتها امتدت اليوم للمؤسسات في الدولة الواحدة، وأصبحت كل مؤسسة تمثل دولة وحكومة مستقلة عن منظومة المصلحة العامة، والقطيعة تسربت إلى التجربة الحزبية في الوطن العربي، فأصبح كل حزب بما لديهم فرحون، وتسرَّبت إلى التجربة البرلمانية فتشكلت تيارات وتكتلات تسعى للنجومية ولمصالحها على حساب الوطن، وتسربت للنُّخب فشكلت مناخًا سويًّا للتنابز وتمرير علم الجهل وترسيخ ثقافة البؤس والفجيعة بزعم الاستنهاض، وتسربت إلى العصبيات الموروثة، فشكلت مناخات سوية للعصبية القبلية الجاهلية، والتي تناكف الدولة وتشاغلها، ولم تستوعب ثقافة عصر الدولة بعد، هذه العصبية التي قهرتها دولة الاستقلال وقزمتها ولم تنمُ من خلالها وتتصالح معها لتنتقل معها طوعًا إلى رحاب عصر الدولة وثقافتها، فتحينت الفرصة للانقضاض على الدولة في حالات وهنها، وكان الربيع والاحتلالات مناسبات ثمينة للبعض للإجهاز على الدولة، ولم تكن العصبية القبلية هي الوحيدة في خندق التربص والثأر من الدولة، بل رافقتها المذهبية والطائفية والمناطقية كذلك؛ حيث ظهرت دعوات الانفصال والمطالبات بالهويات الفرعية على أسس لغوية أو دينية أو مذهبية بجسارة لم نألفها من قبل، كما برز على السطح خطاب شيطنة الحُكَّام، وتخوين الحكومات، والتجاسر على الثوابت، والنيل من هيبة المؤسسات الوطنية الحرجة، كالمؤسسات الأمنية والعسكرية، والتي تُشكل صمامَ أمان للأوطان.
علينَا أن نُدرك أنَّ ما مَضَى لا يُشبه اليوم مطلقًا، وأن المستقبل سيكون الوليد الشرعي لما نضعه اليوم من خطط وفهم لواقع الوطن ومستقبله، وأنَّ الرِّهان على الزمن لم يعُد يُجدي لعلاج معضلات الأوطان، كما أن التراكم العلمي والمعرفي والفضاء المفتوح خلقوا مواطنين يفرطون في التفكير والطموح، في ظل مناخ ركود وتفشي ثقافة القطيعة. والأهم من كل هذا هو مدى إدراكنا لأن المراجعة خير من التراجع، وأن هكذا مشكلات جذرية تتطلب علاجات جذرية وخطوات شجاعة للتصحيح قبل مشرط الجراح، كي يبقى الوطن في الحواس والجوارح بكل مكوناته وموروثه. وبالشكر تدوم النعم...،
-------------------------------
قبل اللقاء: يقول أحدهم: "المواطن العربي حريصٌ كلَّ الحرص على نظافة منزله، ولا يكترث للقمامة في الشارع؛ لأنه يعتقد أنه يملك منزله ولا يملك وطنه".

Ali95312606@gmail.com

الأكثر قراءة