مدارس ساحرة

د. سيف المعمري


عرفت الأجيال الأكبر عن إمكانات وقدرات السَّحَرة من حكايات الأمهات والجدات، بينما عرف الجيل الصغير عنها من خلال مدرسة هوجوارتس، التي تعلم فيها هاري بوتر، بطل الكاتبة جيه كيه رولينج، والتي لم تنجح في بناء عالم روائي مثير وحسب، بل نجحت في تقديم مدرسة استثنائية في مبناها وأهدافها ومنهجها، وأساليب تقويمها ومعلميها وطلابها، الذين آثارهم الخيال وجذبتهم المغامرات، وزادت من إصرارهم التحديات التي كانوا يواجهونا، فكانت رحلة تعلمهم رحلة اكتشاف لا رحلة تلقين.
هل لنا أن نحلم بمدارس تضاهي مدرسة هوجوارتس في كل تفاصيلها، تخرج لنا "سحرة" في كل المجالات في العلوم والرياضيات والموسيقى والأدب والفن والخطابة والتمثيل والابتكارات...وغيرها من المواهب التي تبعث الاطمئنان لنا كشعب، بأننا لم نفقد السحر الذي أذهلنا به العالم طوال تاريخنا، لأننا قادرون على تعليمه لأجيالنا المتعاقبة التي تحمل بداخلها نار الإبداع لكن تزيد شرارة فتشتعل، ومع اشتعالها يشتعل المستقبل وتضيء مصابيحه.. هل نجعل من مدارسنا أماكن لإحياء السحر العماني الحقيقي في ظلِّ كل التحديات التي تتكون وتتعقَّد يومًا تلو الآخر؟!
هذا السؤال نطرحه مع بداية عام دراسي جديد، نزفُّ فيه مئات الآلاف من الطلاب إلى مدارس عامة وخاصة بعيدة كل البعد عن سحرهم.. هل سمعتم يوما أن طلابنا سحرتهم مدارس سحر لم يتمكَّنوا من الشفاء منه؛ مما جعلهم مُندفعين بشغف إلى ذلك العالم السحري الذي يشبه بعضا مما شاهدوه في مدرسة هوجوارتس؟! عالم سحري لا يستطيعوا أن يجدوه في منازلهم ولا في مدن الألعاب والملاهي، ولا في جلسات الأصدقاء؛ وبالتالي لا يريدون الخروج من ذلك العالم السحري في نهاية اليوم حتى لا تنقطع خيوط المغامرة، ولا يتوقف كلام المعلم الذي يشبه البروفيسور دمبلدور، وحتى لا تتوقف التحديات الصعبة التي تتحدى العقول الصغيرة التي تخرج أفضل ما لديها من إبداع، علينا أن نفكر في حقيقة العالم المدرسي الذي يذهب إليه هؤلاء الآلاف. لا أقول ذلك لأقلل من جهد أحد كان، ولكن إمَّا أن نوجد مدارس ساحرة في كل مكوناتها، أو أن نتوقف عن الحلم بمستقبل ساحر، ولننظر في العالم حولنا كيف تسحر بعض الأنظمة التعليمية طلابها، وتسحر العالم معهم، إن وجدت مدارس ساحرة في بقعة من العالم فذلك يعني أننا قادرون على إنتاج بعض منها، وإن لم نفعل فذلك يعني الكثير لهذه الأعداد الكبيرة من الطلاب التي لا تزال في مراحل مختلفة من رحلتها التعليمية، وربما تجد نفسها في حالة عدم انجذاب إلى المدارس لافتقادها إلى عناصر الجذاب وفرص التعلم الحقيقة والمغامرة والخيال والتفكير خارج الصندوق والمجازفة والمنافسة الجماعية...وغيرها من الجوانب التي تصنع إنسانا مفكرا قادرا على حل المشكلات.
لنكن واقعيين أكثر من أي وقت مضى، إن أردنا أن يتعلم طلابنا بشكل ممتع، ولنراجع بيئات التعلم في مدارسنا، فهي بعيدة عن الجاذبية، ولا توفر المتعة التي يتطلبها التعلم، ولا تزال تقليدية في كثير من تفاصيل يومها، تركز على تلقين معارف يمكن أن يتعلمها الطلاب من خلال الانخراط في أنشطة تعلم حقيقية فيها متعة، ومغامرة، ولا نقصد هنا فقد مدرسة هوجوارتس، فهناك مدارس أخرى واقعية عبر العالم تتبنى أساليب مختلفة ساحرة؛ مثل: مدرسة "السعي للتعلم" في ولاية نيويورك الأمريكية التي يتم التعلم فيها عبر الألعاب المختلفة، ومدرسة "مركز ليجر للتعلم" في العاصمة الكمبودية "بنوم بنه"، والتي يتعلم الطلاب فيها من خلال المشاريع فقط، وشعارها هو "لكي تتعلم أي شيء عن العالم، يجب أن تكون موجودا في ذلك العالم"، ومدرسة "أورستيد" في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن التي حولت المبنى المدرسي إلى قاعة مفتوحة بدون فصول، وقسمتها إلى مناطق تعلم يتعلم الطلاب فيها ذاتيا، بينما يقوم المعلمون بالتجوال عليهم للمساعدة فقط، وبالتالي لم يعد المالك مسؤولا عن المحتوى التعليمي، وتخلص الطالب من دور المستهلك لذلك المحتوى؛ وبالتالي فإن هذه المدارس تتحول إلى مدارس ساحرة غير استثنائية بعيدة عن ذلك الشكل التقليدي للمدرسة التي تعمل على تسويق بضاعة لا خيار للمستهلكين إلا قبولها؛ سواء كانت مفيدة لهم أم غير مفيدة، فمتى يمكن أن نفتح أعيننا على وضع بيئات التعلم في مدارسنا؟ ومتى يمكن أن نشرع في تحويل بعض من مدارسنا إلى مدارس ساحرة؟
علينا أن لا نتأخر في أخذ هذه التساؤلات بجدية، لأن هناك آخرين ينافسون المدرسة بشدة على جذب الطلاب لرسائلهم ولنتأمل في الوسائط التكنولوجية ووسائل الإعلام وشركات السوق، فلِم تتخلف المؤسسة المعنية بالتعليم عن هؤلاء؟ ولِمَ تسمح لهم بالتفوق عليها في الاستحواذ على عقول الطلاب ووجدانهم؟ لابد من المحاولة الجادة في الخروج من هذا المأزق، لأن الذين لا يتقنون السحر عليهم ألا يتوقعوا أن يخرجوا سحرة، مثلهم مثل الذي لا يجيد السباحة ويعتقد أنه لن يغرق، هذه رسالة للجميع مع بداية العام الدراسي مفادها أن علينا نحاول أن نغير، أن نحلم بمدارس ساحرة تخرِّج لنا أجيالًا نسحر بهم العالم، وبقدراتهم... المشوار طويل، لكن لابد من البدء، أما أنْ نقف متفرجين على روتين التعلم الذي يترسَّخ كصخرة صماء في أعوامنا الدراسية، فذلك لن يقودنا إلا لأن نُصاب بسحر ما يقوم به الآخرون وينجزونه.. وكل عام والجميع بخير، وعام دراسي موفق للجميع.