المئوية الثانية لماركس..ماذا تبقى من الماركسية؟ (2-2)

عبد الله العليان


في رسالة كارل ماركس إلى فيد يجير في 5 مارس 1853، لخّص له فلسفته في المادية الجدلية الديالكتيكية بقوله: "الجديد عندي يتجلى في الأشياء الثلاثة التالية:
1 ـ إن وجود الطبقات مرتبط فقط بالمراحل التاريخية المعيشة لتطور الإنتاج.
2ـ إن النضال الطبقي يؤدي حتماً إلى ديكتاتورية البروليتاريا.
3 ـ وإن هذه الديكتاتورية ذاتها عبارة فقط عن الانتقال إلى تحطيم الطبقية وتؤدي إلى مجتمع لا طبقي".
هذا التلخيص المبرر لديكتاتورية البروليتاريا، تعني أنّ الفيلسوف كارل ماركس، وضع العامل الاقتصادي، باعتباره العامل الوحيد في التطور وفي ديناميكية التناقض، وتم إقصاء كل العوامل الأخرى، التي قد تكون  هي المؤثر الأقوى في صيرورة الحراك الاجتماعي من خلال  التناقض الطبيعي بين الطبقات، الذي يراه حتمياً التحقق، ومن التجربة الإنسانية أن العامل السياسي، أو الديني، أو القومي، قد يكون هو الأقوى في التأثير، ومن خلال استقراء حركة التاريخ، نرى أن هذه العوامل تلعب دوراً مؤثرا في الشعوب في حركة التحولات والتغيرات، وما جرى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي عموماً، بظهور الحركات القومية والدينية في الاتحاد السوفيتي نفسه، وغيرها من الدول الاشتراكية، وبالأخص يوغوسلافيا الاشتراكية السابقة، ما يؤكد أنّ العامل الاقتصادي ليس الأكثر تأثيرا في حركة التاريخ، بل إنّ واقع تأثير القوميات الآن هو الأبرز في الكثير من شعوب العالم. كما أنّ مقولة "أنّ الدين أفيون الشعوب" كان خطأ كبيراً في النظرية الماركسية؛ لأنّ الدين ليس مخدراً ويدعو للتقاعس عن الفاعلية في حركة الحياة، بل بقي كما كان في صيرورته الفاعلة، وهذا ما تحقق مع الكثير من الشعوب في نهضتها، وفي استلهام قيم الدين في الحركة والنشاط الدؤوب للإبداع، بل إنّ الإسلام دعا إلى محاربة الاستغلال ودافع عن المظلومين والمقهورين، والى إقامة العدل والإنصاف، في كثير من آيات القرآن الكريم.
ومن أطروحات الفلسفة الماركسية، أن ثورة البروليتاريا ستقوم في الدول الصناعية كبريطانيا وألمانيا، وغيرها من الدول الرأسمالية، التي برزت صناعياً في القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، فيرى أنّه من خلال قوى الإنتاج وصراع الأضداد،  بين العمال التي سلبت حقوقهم  ستثور ضد الطبقة البرجوازية، ومحو الرأسمالية، لكن هذا التنبؤ لم يتحقق أبداً، فلم تقم الثورة في هذه الدول، بل قامت في روسيا الزراعية والصين التي كانت في عداد الدول المتخلفة،  ولم تكن أسباب الثورة البلشفية ـ 1917ـ بسبب صراع الطبقات وتنازع الأضداد بين البرجوازية والبروليتاريا، ولا من تراكم قوى الإنتاج، بل كانت ثورة على استبداد القياصرة والحرمان في الكثير من الحقوق، لكن لينين حّول هذه الثورة إلى قضية صراع طبقات وتناقضها، ولم يتحقق للعمال بعد ذلك وفق ما طرحه كارل ماركس من سيطرة العمال على كل مرافق الدولة تمهيداً للمرحلة التالية، لكن لينين عّدل الكثير من الآراء في الفلسفة الماركسية، لسد الثغرات التي ظهرت بعد قيام الدولة وبروز مشكلات التطبيق، ولذلك أطلق البعض المقولة الشهير(الماركسية/ اللينينية) وقد تربع الحزب الشيوعي واللجنة المركزية في الاتحاد السوفيتي، على كل مفاصل الدولة، وبقيت بقية المراحل التي تحدث عنها الفيلسوف المؤسس مجرد (يوتوبيا) حالمة دون حراك كما هو محدد في مسالة الوصول إلى النهاية، وانتهاء الصراع وتلاشي حتى الدولة، إلى ما يقرب من سبعين عاما حتى سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه ومعه كل دول حلف وارسو.
ومن ضمن الآراء التي طرحتها النظرية الماركسية، مسالة تلاشي الدولة، بعد مرحلة قيام الشيوعية، وانتهاء صراع الطبقات وسيطرة الطبقة الكادحة وتسييرها لمهام المجتمع، فكيف يمكن توقع زوال الدولة حينئذ؟ وماذا سيكون حال القانون والنظام إذا غابت الدولة أو تلاشت المؤسسات، إلا من دولة العمال والفلاحين إن أقيمت؟ ذلك أنّ النظرية الماركسية تقول إن الدولة تقوم من خلال النظم المستغلة، فإذا زالت الدولة الرأسمالية وانتصرت القوى الكادحة، فإنّها ستنتهي بانتهائها؟! لكن هذا القول كذبه الواقع الاشتراكي نفسه، فالدولة في هذه النظم (آنذاك) تضخمت، وأصبحت أكثر قوة وتوسعاً حتى من النظم الرأسمالية، وهذا ما يخالف أساس النظرية الماركسية نفسها، ولا يعقل أبدا أن تزول الدولة من حياة المجتمعات.
والحقيقة أنّ الرأسمالية كنتيجة  للحريات العامة والتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، غيّرت الكثير من أفكارها ومن تسلطها وتوحشها، فلم تكن كما كانت في القرن التاسع وما بعده، وتحقق للعمال الكثير من المكاسب، بفضل النقابات والنظم التي خففّت من مظالم الرأسمالية، وأصبح العامل في الدول الليبرالية الرأسمالية أفضل حالاً من العامل في الدول الاشتراكية، وهذا ما دعا أحد الماركسيين الكبار في الحزب الشيوعي المصري، د/ فؤاد مرسي إلى الاعتراف بهذا الأمر، وكان من أشد المتعلقين بالفلسفة الماركسية تقترب من التقديس، فاصدر كتابا في السبعينيات من القرن الماضي، كان عنوانه :(الرأسمالية تجدد نفسها)، وهذا سبب من أسباب نجاحها، وبقائها صامدة، بينهما تهاوت النظرية الماركسية بسبب الجمود والحدية من خلال النظم الشمولية والقمعية، والحقيقة أن بعض من الباحثين المدافعين عن هذه النظرية يرون أن ماركس يمكن أن يعدل في هذه النظرية، لو عرف بعض الأخطاء في الممارسة الواقعية، وهم يشيرون إلى ما قاله كارل ماركس، عندما برر الاستعمار الفرنسي والانجليزي، في الجزائر وفي الهند، بحجة نهوض هذه الدول من تخلفها، لكنه راجع مرة أخرى استنتاجاته السابقة وعّدل عنها، وهو أن ما يتم في أوروبا ـ  قد لا يكون متطابقاً لغيرها من الدول، لكن بعض الماركسيين الأصوليين ـ بحسب تعبير علي حرب ـ لا يرون هذا الأمر، لكونهم متمسكين بالفكرة الأولية، ولا يحيدون عنها. ويروي المفكر المصري جلال أمين في كتابه (مكتوب على الجبين)، قصة طريفة، إشارة إلى الكاتب الماركسي ـ الذي لا يتوب كما قال ـ وهي الصورة الحدية للفكرة عنده، "ذهب طفل صغير إلى المدرسة لأول مرة فسمع المدرس وهو يشرح للتلاميذ حرف الألف وكيفية كتابته ونطقه. وأعجب الطفل بهذا الحرف وشكله، وظل مدة طويلة يفكر فيه. ثم انتقل إلى الحرف الثاني: الباء. لكن الطفل ظل يفكر في حرف الألف ولم يستمع إلى ما يقوله المدرس عن حرف الباء، ولا أي حرف آخر. واستمر حرف الألف يسيطر على ذهن الطفل فمنعه من التفكير في أي شيء آخر. عندما أدرك المدرس عجز الطفل عن استيعاب الحروف الأخرى، طرده من المدرسة، فسار الطفل في الغابة، وهو لا يزال يفكر في "الألف"، ورأى شجرة فإذا به يرى فيها حرف الألف، وإن كان قد لاحظ اختلافًا طفيفًا بينها وبين شكل الألف، في أعلى الشجرة. ثم رأى نهرًا فرأى فيه أيضًا حرف الألف، وإن كان ممدودًا أفقيًا بدلًا من امتداده رأسيًا. وهكذا أخذ يفسر كل ما يراه بحرف الألف حتى ذاع صيته وصار من أكبر مفكري عصره".
وهذا يعني أنّ الفكرة أو الرؤية الجامدة، عندما تبقى ثابتة عن الواقع، حتى تأتي النازلة فتحطمها، إن لم تكون قابلة للمراجعة وإعادة النظر في الفكرة ونقيضها وفق الواقع وتحركاته.