عزيزي أوديب.. عزيزتي إلكترا!

أمل عبدالله الحرملية

 

كم هي كثيرة تلك الأشياء التي نسعى لضمها لقائمة أملاكنا، والقائمة تتسع يوما بعد يوم متجاهلين أنّ ثمة أشياء ليست قابلة للاستحواذ، والتملك، وأشياء أخرى ليس علينا اقتناؤها لمجرد أن الآخرين يمتلكونها. فالأمر أصبح يتجاوز بمراحل عُقد أوديب، وإلكترا..  أوديب الذي لا يمانع قتل والده إن رآه يقترب من أمه؛ تلك الأنثى تعني له كل شيء، إلكترا هي الأخرى مفتونة بوالدها حد الكراهية المطلقة لوالدتها التي تستحوذ بشكل فطري على مساحة ليست بالهينة في كيان زوجها. قد يستهجن الأسوياء مثل هذا السلوك المَرَضي، ولا يعدونه أكثر من مجرد شذوذ عن الفطرة؛ لكننا بشكل، أو بآخر لسنا أفضل حالا فنحن -وإن أبينا- مصابون بعُقد من صنوف أخرى. نصبح، ونمسي مكبلين بفعل هيمنتها على أفكارنا وتصرفاتنا.
إنه عالم خصبٌ بالوفرة التي لطالما عُدَت المخلص الذي سينقذ العالم من جوعه، ومرضه، ووجعه لكنها، وبخلاف المأمول صارت وبالا يزج بالإنسان في دهاليز لا انتهاء لها من الجشع، والشراهة؛ يعري الإعلام العالمي هذه الحقائق حينا ويكسوها حينا آخر وفقا لما لديه من أجندة، ومخططات لتوجيه العقول بل وتغييبها لغرض بيعنا سلعا تستنزف قدرتنا على الاختيار قبل جيوبنا. ولأجل هذه الغاية يتم تجنيد ملايين قنوات الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة التي تخبرك: أن تأكل، وتشرب، وتلبس، وتقتني وفقا لما يروجون دون منحك فرصة للتساؤل: لماذا هذه السلعة تحديدا؟
وهذا الكلام قد لا يعني شيئا لمن لديه من الأرصدة ما تنوء عن حمله المصارف والخزائن؛ ولكنه بالنسبة للفقراء مواجهة خاسرة في محاولة إشباع فضولهم لتجربة حياة مكلفة جدا من جهة، ومن جانب آخر مجاراة رغبات الأبناء الذين يعتقدون أنهم يستحقون أن يحيوا نمط حياة يوازي ما يعرض عليهم في عالمهم الافتراضي؛ وينعكس على أقرانهم ميسوري الحال في عوالمهم الحقيقية. الأبناء الواهمون الذين جاءوا للحياة مع اعتقاد جازم بأن الحياة منحتهم صكا بهذا الاستحقاق! فيعمد الآباء إلى التضحية بمدخراتهم التي يعدونها ليومٍ أسودَ آتٍ في سبيل منح أبنائهم حياة جيدة؛ لا يضطرون معها إلى عقد مقارنات، أو الشعور بأنهم أقل شأنا من غيرهم.
إنّ نمط السلوك الاستهلاكي لدى أي فرد منا يتأصل منذ الطفولة متأثرا بالعديد من العوامل أهمها؛ حملات الدعاية، والإعلان الممنهجة التي تهدف لتشكيل عادات شرائية مقصودة لدينا. التجار ورواد الأعمال يدركون جيدا حقيقة مفادها: "أن السلعة التي تُشترى أكثر من غيرها لا يعني أنها الأفضل بل إنّه تم التسويق لها بشكل أفضل من غيرها".
وعلى سبيل المثال لا الحصر تضخ المليارات يوميا إلى حسابات عيادات عمليات التجميل، وشركات مستحضرات التجميل؛ لأنّ مليارات البشر لا يملكون من منسوب التقدير الذاتي ما يكفي ليحبوا مظهرهم كما هو، ويلهثون ليصبحوا نسخا من آخرين وفقا لمعايير مجحفة حصرت الجمال في أوعية جسدية بمقاسات محددة، ومحدودة. تحكي لي صديقة: أنّها هبطت في مطارات إحدى الدول التي تنتشر فيها عيادات التجميل؛ لتتفاجأ بأنّ الفتيات حولها لديهن ذات تفاصيل الوجه إلى القدر الذي يجعل التفريق بينهن صعبا! إننا نعالج التشويه الداخلي العميق في أنفسنا، والشرخ الذي أحدثناه في جدران أرواحنا بمعالجة سطحية للوعاء الخارجي الذي تختبئ دونه كل صراعاتنا وانكساراتنا، ومعاركنا مع أنفسنا، ومع هذا العالم. معاركنا التي نترك نهاياتها هاربة، وندعها تفتعل الحرائق فينا، وتستشري معها آلامنا أكثر فأكثر دون مواجهة شجاعة حقيقية واحدة. بعد أمدٍ ليس بالبعيد سيكون لدينا الكثير من المسوخ التي تمتلك ابتسامة هوليود، ولكنها لا تملك سببا واحدا للابتسام، وسنعبر كل صباح بجانب الكثير من أجساد العارضين، والعارضات بنسخها المعدلة، والمهجنة. هكذا سنغش بعضنا كثيرا، ويصبح من حسن طالع أحدهم أن يلتقي إنسانا حقيقيا في خضم هذا الزيف كله.
ومع ذلك فإنّ حب تملك الأشياء العشوائي هذا؛ يمكن السيطرة عليه بخلاف حب تملك الأشخاص الذي قد يصل إلى حد محاولة استعباد الناس، والتصرف كأوصياء عليهم؛ وكأنّهم قطع شطرنج لا خيار أمامها سوى الامتثال. حيث يعمد المصاب بهذه العقدة إلى فرض آرائه عنوة على الشريك، أو الأبناء او المرؤوسين وإلغاء شخصياتهم بحجة أنه يفعل ذلك لأجل مصلحتهم ولحرصه عليهم. فإن خولفت أوامره وارتكبت نواهيه فستكون النتيجة إيذاء وإمعانا في الاضطهاد والعقاب. يشعر الطرف الآخر معها بأنه مغلوبٌ على أمره مسلوبٌ في حريته، ومحاصرٌ في جميع تصرفاته فيخلق ذلك إحساسا مزمنا بانعدام الأمان في ظل هذا الشخص المتملك فينبذه من حوله ليجد نفسه وحيدا بعد حين!
عزيزي أوديب.. عزيزتي إلكترا: قد تبدوان في عقيدة فرويد متطرفان في تملككما للجنس المخالف من والديكما؛ ولكن الحقبة التي تعيشنا اليوم ونعيشها يتكاثر فيها وباء التملك، دون أطر تكبح جماح هذا التكاثر. وكرة الثلج التي بدأت في التدحرج للتو تكبر مع كل شقلبة مواتية، ونحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى التدقيق في طريقة تعاطينا مع كل هذا الضجيج؛ وصولا إلى حياة أكثر نضجا، واتزانا وبساطة.

تعليق عبر الفيس بوك